أحمد فوزي صالح (3/ 3): الوثائقي اقتطاعُ سياق من الواقع

05 أكتوبر 2024
أحمد فوزي صالح: أشعر بخوف شديد وأنا أصنع فيلماً (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواصل المخرج أحمد فوزي صالح استكشاف حياة النساء العاملات في فيلمه الوثائقي "حكاية شادية وأختها سحر"، مسلطًا الضوء على التحديات الاجتماعية والمهنية التي يواجهنها.
- يواجه صالح تحديات أثناء التصوير، منها فقدان الشغف وصعوبات تصوير النساء في بيئاتهن الطبيعية، مع مشاهد أثارت تساؤلات حول واقعيتها، مثل سقوط شادية بسبب "غيبوبة سكر".
- يتميز الفيلم بأسلوب سينمائي يركز على الحياة اليومية دون دراما كبرى، مع التركيز على طرح الأسئلة، مما يعكس فلسفة صالح في التعبير عن القلق الشخصي والبحث عن الخلود.

بعد فيلمين له، وثائقي بعنوان "جلد حي" (2011) وروائي طويل بعنوان "ورد مسموم" (2018)، والأخير تطوير سينمائي للأول، مأخوذ عن رواية "ورود سامّة لصقر" (1990) لأحمد زغلول الشيطي، حقّق المخرج المصري أحمد فوزي صالح وثائقياً جديداً بعنوان "حكاية شادية وأختها سحر"، الذي يتناول فيه يوميات عيش نساء عاملات، متابعاً وإياهنّ تفاصيل مستلّة من بيئاتهنّ وعلاقاتهنّ وتفكيرهنّ.

في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة (الأولى في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، والثانية في 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري)، يُنهي أحمد فوزي صالح حواره مع "العربي الجديد" راوياً فيها تفاصيل عن اشتغاله وعلاقته بالواقع والحياة والنساء والسينما، ومحاولاً إيجاد معادلات كلامية لوقائع عمله في السينما والتلفزيون.

(*) لكنْ، هناك من كان يعمل معك على المشروع من برلين أخبرني قبل إجراء الحوار معك مباشرة، أنّه في المونتاج.

كان في المونتاج عام 2015، وتوقّف العمل عليه، لأنّي أفقد الشغف.

(*) فَقَدت الشغف، أم خوفٌ من عدم العرض، والمشاكل المترتبة عليه؟

أغلب الأفلام تواجه صعوبات.

(*) حدّثني عن صعوبات "شادية".

الناس ليسوا معتادين التصوير.

(*) لكنّك تعرف هؤلاء النساء منذ مدة طويلة، وهناك علاقة تربطك بهنّ. أعتقد أنّ تلك العلاقة والتصوير طويلاً كَسَرا الحاجز والخوف من الكاميرا.

أحياناً لا يَكنّ في حالة تسمح بالتصوير، وتكون ظروفهنّ سيئة جداً، ويرِدْن منّي الابتعاد عنهنّ أو الاختفاء. هذا حقهنّ. ليس من حقّي القول لهنّ إنّي أحضرت فريق عمل، وإنّي دفعت لأفراده مالاً، ولا بُدّ أنْ أصوّر، وفي الفيلم مآسٍ كثيرة.

(*) هناك مشاهد جعلتني أتساءل: هل حدث هذا مصادفة أمام الكاميرا؟ مثلاً: سقوط شادية مرّتين.

المُصوّرة أسقطت الكاميرا لأنّها ارتبكت عندما سقطت في المرة الأولى. اعتقدتُ أنّ هذه المرأة تمثّل وتدّعي. كان هناك اقتناع تام بأنّها تؤدّي "نمرة" أمام الكاميرا، إلى أنْ ماتت. ثم عرفت أنّ هذا "غيبوبة سكّر".

(*) تُصوّر هذه الفترة كلّها ولا تعرف أنّ إحدى بطلاتك مريضة بالسُكّر؟ هل ماتت في إحدى هذه المرات التي سقطت فيها؟

أجل. في المونتاج، وقبل وفاتها، قلت لمديرة التصوير: "كلّ المشاهد التي تسقط فيها شادية أمام الكاميرا سأرميها، لن أضع أيّ لقطة منها في الفيلم". لكنْ، بعد أن ماتت شادية، أعدتُ كلّ تلك اللقطات، وبنيتُ الفيلم من جديد. كنّا نصوّر ذات مرّة، وفجأة دخلت في "غيبوبة سُكّر".

(*) شخصية أروى بدت لي أنّها تُبالغ في تصرّفاتها أمام الكاميرا. كأنّها اتّخذت قراراً بأنّها ستُقدّم استعراضاً. كأنّها تعيش الدور، خاصةً المشهد الذي تُصاب فيه بالهستيريا، وتصرخ طويلاً.

كلا. كان المشهد طبيعياً جداً. هناك لقطة تنزع فيها الميكروفون وترميه. هذا أكثر مشهد أحبّه. لكنّي مُتّفقٌ معك على أنّها كانت "أوفر أكتنغ" أمام الكاميرا. هناك فيلم صنعه جان ـ لوك غودار عن كيف يُعبّر الناس عن أنفسهم أمام الكاميرا. لا أتذكّر اسمه الآن، لكنّ الناس من الطبقة العاملة، يأتون لـ"بروفة" أمام الكاميرا. تُعبّر الفكرة عن أنّنا نقع في أسر الصُور التي نُريد رسمها لأنفسنا. لذا، أجد أنّ أروى تظنّ أنّها تمثّل. وجدت لها حواراً على "تيك توك" تقول فيه إنّها مثّلت في "نساء من مصر". كانت تعتبر نفسها تمثّل، ولا تتحدّث عن حياتها. هنا، أكمل حديثي عن الصعوبات. مثلاً: كنّا نصوّرهن أثناء النوم، والصورة ظلام، وليست جيدة. لكنّي وضعتها.

(*) فكرة فيلم غودار جميلة وذات دلالة، لكنّها غير واضحة عندك. لا تركيز عليها. ظهرت في مشاهد مصادفة. انطباعي أنّها تحاول تقديم صورة عن نفسها، لكنّها "أوفر أكتنغ". كذلك، لي تساؤل آخر: أين المجتمع من هؤلاء النساء؟ أليس للمجتمع أي دور فيما يعشنه؟ أنتَ جعلت الكاميرا تتحرّك مع الـ"توك توك" في الشارع، مع موسيقى لطيفة. لكنّك لم تمنحنا الفرصة لنرى هذه الشوارع. سرت فيها، لكنْ من دون أنْ نراها.

هذا يعني أنّي نجحت.

(*) في ماذا؟

أقصد ما قلتِه أنتِ بالضبط.

(*) لأجل ماذا؟

كنتُ أحدّثك عن الصعوبات، وهذا جزء منها. هؤلاء النساء يعملن في هذه البيوت. الفيلم يحمل بصمتي، وفيه غضب وعنف، رغم أنّنا لا نخرج إلى الشارع أبداً. لا نعرف أين نحن. أقول إنّي أقصد هذا. استبعدت كلّ لقطات الشوارع.

(*) شعرت أنّ هؤلاء النساء لم يحدث لهنّ أيّ تطوّر في حياتهن. لا شيء حدث كلّ مدة الفيلم. يَنمْن ويستيقظن في الوضع نفسه الذي يشحنني بصفتي مُشاهدة ضدهم. الفيلم خطيّ ومُسطّح جداً. لا أبعاد فيه أو مستويات للقراءة. هذا عكس ما أراه في "جلد حي" و"ورد مسموم". هناك تفسيرات عدّة.

هذا يحتمل أنْ يكون "ستايل" مختلفاً، أقصد أسلوب فيلمي.

(*) هذا لا علاقة له بالـ"ستايل". أنا أتحدّث عن المضمون.

أعطني فرصة لأتحدّث.

(*) تفضّل.

حياة أمي مثلاً. ماذا حدث فيها؟ تزوّجت رجلاً توفّي بعد 20 عاماً. أنجبت أولاداً كبروا، و"خلاص". ماذا تنتظر؟ هذه حياة أحادية، كما قلتِ. هذا نوع وشكل سينمائيان. هنا أناس يصنعونهما. أشعر بالخوف جداً وأنا أصنعه، ولا أزال قلقاً ومتوتّراً. كان يمكنني زرع أشياء كثيرة جداً فيه. كان يمكنني تصوير انتخابات تحدث، وأضعها في الفيلم. لكنّي اتّخذت قراراً بأن أصوّر حياتهن العادية، إلى أنْ يمنحنني شيئاً كبيراً يحدث فيتغيّرن. هذا لم يحدث إلا بموت شادية. كما يقول جورج حنين: حياة "بلا يأس ولا أمل". هذه حياتهن اليومية.

(*) هل دور الفن نقل الواقع كما هو؟

أنا لم أنقل الواقع.

(*) قلتَ إنّك كنتَ تريد تصوير حياتهنّ كما في الواقع.

التحدّي أنْ أصوّر الحياة العادية. لكنّ الوثائقي اقتطاعُ سياق من الواقع. أخبرتك أنّ هناك أشياء قُلنَها وأنا حذفتها. إذاً، أتدخّل في الواقع، وأعيد بناءه وتشكيله. أصلاً أصوّر بما يتوافق مع وجهة نظري وتصوّراتي الفنية والبصرية، وفي المونتاج أعيد البناء والترتيب. مهمّتي ليست تقديم إجابات، بل طرح أسئلة. الفيلم بسيط، يتساءل: لماذا هناك أناس يعيشون بهذا الشكل؟

(*) مبدئياً، لم أطلب منك تقديم إجابات. التساؤل الذي طرحتَه أنتَ لم يراودني في المشاهدة، ولم أشعر أنّه مطروح. الآن، أعود إلى فكرة وجود مخرجة مشاركة ومونتيرة.

صوّرنا ثلاثة أو أربعة أيام. كنتُ مخرجاً ومُصوّراً ومُسجّل صوت. شعرتُ أنّ التصوير غير حقيقي. الشخصيات لا تقول الحقيقة، وهناك تمثيل. شعرت برداءة ما صُوِّر، فتوقّفت. أحضرت مساعدة، قلت لها: "أنت تُكملين الفيلم، وسنحضر مُصوّرة ومُسجّلة صوت"، وذلك لكسر الحاجز، لأنهنّ محجّبات. لكنْ، لما أصبح فريق التصوير شابات، خلعت النساء الحجاب أمام الكاميرا. لذلك، كتبت في الإهداء: "إلي أمي.. أحمد ومِنّة".

(*) لماذا قرّرت أنْ تكتب "مونتيرة ومخرجة مشاركة"، ثم تختتم بـ"سيناريو وإخراج أحمد فوزي صالح"؟

هذا خطأ في "التتر" سيُعدّل. هناك شخصٌ آخر اشترك معي في السيناريو. لكنْ، مفروض إنتاج وإخراج. أريد التأكيد أنّ المونتيرة مِنّة بذلت جهداً كبيراً، وفي الفيلم جزءٌ منها.

(*) لكنْ، عندما تختم "التتر" بأنّك المخرج، فأنت تنفي عنها أنّها شريك حقيقي معك في الإخراج. هنا، أستدعي تجربة المخرج أسامة محمد في فيلمه "ماء الفضة" (2014)، عندما كتب اسم المُصوّرة وئام سيماف بدرخان شريكة في صنعه: مخرجان مشتركان. أنتَ تنفي هذه الشراكة. لماذا؟

لماذا؟ لأنْ في المسلسلات، أنا أخلق هذا العالم وأدخله. لكنْ، هي جاءت لاحقاً، وشاركتني الإخراج، ثم واصلنا الاشتغال معاً. هي استخلصت أربع ساعات من أربعين ساعة تصوير في المونتاج، وأنا اشتغلت على هذه الساعات الأربع.

(*) حدّثني عن طموحك.

أنْ أعتزل السينما عندما أبلغ 50 عاماً.

(*) عندما سألتك، تحدّثت مباشرة عن السينما، رغم أنّ لديك أسرة وطفلاً، وتصنع مسلسلات. هذا يعني أنّ السينما الأساس عندك، وأنّ فكرة الاعتزال مُزيّفة أصلاً.

(يضحك عاليا). ربما أنتِ صَحّ. همّي الوحيد الأفلام، وكلّ حياتي الأخرى تتدمّر. ليست لديّ حياة أسرية ناجحة، ولا أي شيء آخر. السينما شغفي، فكيف أرغم إنسانة على أنْ تعيش معي؟ لا أتذكّر من قال: "كيف أُقنع زوجتي كلّ صباح بأنّ مجرّد النظر من الشبّاك (يعني) أنّي أعمل". شغفي التعبير عن قلقي الخاص، وعن مشاعري وتوتري. هاجسي الموت. ربما لذلك أفكّر: كيف أعيش بعد الموت؟ جزءٌ من شغفي بصنع الأفلام رغبتي في عدم الموت... بأفلامي.

المساهمون