أحمد عبدالله السيد (1/ 2): أفضّل أنْ يكون ما لا يُقال أكثر مما يُقال

21 ديسمبر 2022
أحمد عبد الله السيد: أحبّ الغموض في الأدب والسينما (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أحد أبرز مخرجي السينما المستقلّة في مصر، في العقدين الأخيرين. جاء من عالم المونتاج والموسيقى. كان حلمه دراسة الإخراج، لكنّه لم يُقبَل بـ"معهد السينما"، فدرس الموسيقى، ثم مُنح فرصة المونتاج في مرحلة باكرة، فمَنْتَج أفلاماً عدّة، قبل إخراج أول فيلم له بعنوان "هليوبوليس" (2009)، تلاه "ميكروفون" (2010)، ونال جوائز عدّة من مهرجانات عربية ودولية. توالت أعماله لاحقاً: "فرش وغطا" (2013)، و"ديكور" (2014)، و"ليل خارجي" (2018).

فيلمه الجديد، "19 ب" (2022)، عُرض للمرة الأولى عالمياً في المسابقة الدولية للدورة الـ44 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، ونال بفضله 3 جوائز: "لجنة التحكيم ـ هنري بركات لأفضل إسهام فني"، الممنوحة لمدير التصوير مصطفى الكاشف، و"أفضل فيلم عربي" (قيمتها المالية 10 آلاف دولار أميركي)، و"الاتحاد الدولي للنقّاد ـ فيبريسي".

بهذه المناسبة، حاورت "العربي الجديد" المخرج المصري أحمد عبد الله السيد عن جديده، وعن السينما والفنون والحياة والواقع والمجتمع.

 

(*) يبدو لي "19 ب" مُخادعاً إلى حدّ ما. ربما يبدو بسيطاً، لكنّه يحمل طبقات عدّة من المعاني. قبيل عرضه العالمي الأول في "مهرجان القاهرة السينمائي"، قدَّمْتَه قائلاً إنّ الفكرة جاءتك أثناء انتشار "كوفيد 19"، فبدأتَ تتأمّل ذاتك في تلك العزلة. أيعني هذا أنّ الشخصيتين الرئيسيتين ربما تحملان أشياء منك؟

معك حقّ فعلاً. عندما كتبتُ الفيلم، استلهمتُ الفكرة من شخصٍ كنتُ أراه يومياً في الشارع. حاولتُ كتابة قصّة متخيّلة عن حياته. لكنْ، عندما نبدأ الكتابة، تدخل شخصياتنا في ما نكتب، ونعكس مخاوفنا وهمومنا. أناسٌ قريبون جداً منّي قالوا، بعد مشاهدتهم الفيلم، إنّ شخصية البطل فيها أشياء من شخصيّتي، وإنّه يُشبهني، رغم أنّ فيه أشياء كثيرة جداً لا أفعلها في حياتي، إذْ ليس لدي قطّة أو كلب، مثلاً.

لكنْ، رغماً عنّي، في الكتابة أُحمّل الأشياء والشخصية تفاصيل من حياتي وملامحي وروحي.

 

(*) إحساسي أنّ "19 ب" عن فكرة الخوف: خوف من أي شيء، أو من شخصٍ ربما نتصوّر أنّه لا يُهزم، بينما هو في الحقيقة ربما يكون ضعيفاً جدّاً من الداخل، وهشّاً إلى درجة إمكانية هزيمته، هو وكلّ ما يُمثّله، بأبسط الأشياء.

صحّ جداً. طبعاً.

 

(*) وهذا يُحيل إلى فكرة الديكتاتور.

لم أقصد هذا بشكل دقيق. لم أكنْ أرمي إلى فكرة السلطة وعلاقاتها بالآخرين. حقيقة، كنتُ أقصد شيئاً آخر: العلاقات بين البشر. هذا مهمومٌ به أكثر. كنتُ أتساءل: هل نحن قادرون على العيش، بعضنا مع بعض، باختلاف الثقافات والميول والعقائد والأفكار الفلسفية؟ كيف نستطيع أنْ يعيش بعضنا مع البعض الآخر؟ أودّ، مع نهاية الفيلم، أنْ يتساءل المتلقّي: هل كان لا بُدّ أنْ ننتهي هذه النهاية، أم كان من الأفضل أنْ يعيش الناس بعضهم مع بعض، وأنْ يتشاركوا مواردهم البسيطة والمحدودة جداً، التي بالكاد تستطيع منحهم القدرة على الحياة، حتى يعيشوا بسلامٍ؟ هذا كلّه يطرحه الفيلم، أكثر من علاقة الفرد بالقانون أو بالسلطة.

 

(*) لكنّك أنتَ أصلاً، بتقديمك شخصية البلطجي، التي يؤدّيها أحمد خالد صالح، لم تترك لنا فرصة التعاطف معه، وظلّ هذا مدة طويلة من الفيلم. تقريباً، في الثلث الأخير فقط، بدأنا نتعاطف معه، تحديداً في مشهد الاعتراف، الذي يتعرّى فيه نفسياً، كاشفاً عن ضعفه الداخلي، وعن قلّة حيلته، في مشهد النار المشتعلة للتدفئة، بجوار سيد رجب، فندرك أنّ هذا الجبروت مجرّد قشرة هشّة، يحمي بها ضعفه. لكنْ، طوال الفيلم، أنت تجعلنا ضدّه، إذْ ما الذي يدفعنا إلى التعاطف معه، أو إلى التفكير في إمكانية أنْ يتشارك مع هذا الرجل حياته أو موارده البسيطة. على العكس، شخصياً وجدته، في أغلب المشاهد، تجسيداً للقهر، لأنّه يُسبّب للعجوز حارس العقار نوعاً من الخوف والقلق والأرق.

قرأتِ الفيلم بهذا الشكل؟ شعرتِ بهذا؟

 

(*) أجل. أحكي عن مشاعر وأفكار أوجدتها المُشاهدة فيّ.

أتذكّر أنّ أصدقاء وأساتذة كبارا شاهدوه في المراحل الأولى للمونتاج، وطلبوا منّي تبديل مكان مشهد الاعتراف هذا، وأنْ أجعله أبكر، أو في جزء من البداية. لكنّي كنتُ مشغولاً أكثر في أنْ يظلّ الفيلم يُعطي تفاصيل ومعرفة إضافية عن الشخصية كلّما تقدّم، وأنْ يُفاجئ المتلقّي في تحرّكه معهم لحظة الذروة. مثلاً، لو كنتُ أصنّفه في خانة الشرير أو البلطجي، مع الوقت ستختلف مشاعري، وحين أبلغ النهاية تظهر مشاعر أخرى. تُعجبني هذه اللعبة.

 

(*) لماذا اخترت إنهاء الفيلم نهاية سعيدة؟

هل خرجتِ منه وأنتِ تشعرين بسعادة وفرح؟

 

(*) لا، لم أقصد أنّي خرجتُ سعيدة. لكنْ، على الأقل، أنتَ جعلتَ الرجل الطيب ينتصر على الشرير/البلطجي. بدا لي هذا صراعاً بين الخير والشر، وأنتَ جعلت الرجل/الخير ينتصر على الرجل/الشرير. صحيحٌ أنّك كشفت عن ضعف هذا البلطجي في الثلث الأخير، لكنّي كنتُ لا أزال أرى هذا الشاب رمزاً للقهر، خاصة أنّ العجوز، الذي ربما يرمز إلى الوهن الذي نعانيه كشعب، استطاع أنْ يهزم البلطجي.

سعيدٌ بأنّ هذه المشاعر وصلتك. عموماً، أحبّ أنْ يخرج الناس من مشاهدة أفلامي بأفكار ونتائج مختلفة. بعد العرض الأول، وصلتني ردود فعل متباينة، فالبعض قال إنّي سبّبت له ارتباكاً: "يُفترض بنا أنْ نكره هذه الشخصية، لكنّنا أحببناها، وحزنّا على تلك النهاية". قال آخرون إنّهم خرجوا مندهشين أو متوترين أو غير قادرين على تحديد أمكنتهم.

في الحقيقة، أثناء كتابة السيناريو، هذا كان أكثر شيء تمنّيتُ أنْ يحدث. أي أنْ يخرج المُشاهدون وهم عاجزون عن تحديد مشاعرهم بدقّة، ويتساءلون لماذا حدث ما حدث؟ هذا أراهن عليه وأحبّه، رغم أنّ تقاليد كتابة السيناريو تعتبره غير صحيح، وأنّه يُفترض بنا وضع الجمهور في مكان محدّد، يخضع للتصنيف.

أنْ يخرج الناس مرتبكين، هذا لا يُفضَّل في تقاليد الكتابة، لكنّي أحبّ ممارسة هذه اللعبة، التي جرّبتها في أكثر من فيلم.

 

(*) في مَشاهد من "19 ب"، كنتَ تغرس تفاصيل غامضة، تُحيل أحياناً إلى الواقعية السحرية، كمشهد الصخرة التي تُنقَل، ثم نراها في المنزل؛ أو خوف الحارس من شيءٍ ما في البيت، في مشهد باكر، من دون أنْ نراه. كذلك مشهد الشجار، الذي حين يُفتح حديثٌ عنه صباح اليوم التالي، يكون ردّ الحارس العجوز كأنّ شيئاً لم يحدث، كأنّه خيالٌ أو حلم، وهذا مُربك قليلاً، ويجعلنا نتساءل: أهذا واقع أم خيال. لماذا كنتَ تتعمّد غرس هذا الغموض، أو روح الشكّ؟

أحبّ الغموض في الأدب. أفضّل أنْ يكون ما لا يُقال أكثر مما يُقال. عندما يحدث هذا في كتابٍ أو رواية، أحبّهما جداً، لأنّ المؤلّف يترك لي لحظاتٍ أتخيّلها وأكمل البناء عليها. كذلك أحبّ الأفلام المماثلة؛ لذا أحبّ ممارسة هذه اللعبة في أفلامي، ومنها "19 ب". مثلاً: علاقة نصر ويارا غير واضحة، ولا نعرف شيئاً عن الماضي الخاص بهما. البعض يسأل: لماذا لم تقل شيئاً؟ كذلك حكاية المرأة المسنّة التي تستقلّ سيارتها، ويتلاقى بصرها مع الحارس. المشهد يُفسّر نفسه، وقدر المعلومات المطروح فيه كافٍ. أعتقد أنّي لو زوّدت كمية المعلومات، سأفسدها، وكذلك لو قلّلتها ستصبح رقيقة، أو شيئاً لا قيمة له. أحياناً تنجح هذه اللعبة، وأحياناً أخرى لا تنجح. مع ذلك، أحبّ دائماً أنْ يكون غير المحكي أكثر بكثير من المحكي. لكنْ، في الوقت نفسه، نشعر بغير المحكي ونفكّر فيه.

 

 

(*) لنتحدّث عن شريط الصوت وثرائه: هل كتبتَ ذلك حرفياً في السيناريو، أم في المونتاج؟

هناك أغنية واحدة وظّفتها في الفيلم، "في قلبي غرام"، موجودة منذ كتابتي المسوّدة الأولى للسيناريو. كنتُ أعرف. كتبتُ أنّ البطل يستمع إلى أغنية محمد عبد المطلب هذه، التي ينتهي بها الفيلم. هناك تفاصيل موسيقية أخرى في منتصفه اشتغلنا عليها، المونتيرة سارة عبد الله وأنا. نظراً إلى أنّي بدأتُ حياتي مُؤلّفاً، أرى أنّ المؤثّرات الصوتية والأغاني والموسيقى جزء أساسي من الفيلم، والمَشَاهد تُبنى على "تراك" الموسيقى و"تراك" المؤثّرات الصوتية. مثلاً، لو كانت موسيقى الـ"هيب هوب"، في غرفة الأولاد والشباب، آتية من بعيد، لا بُدّ أنْ تكون محسوسة، ولو أنّها آتية من بعيد، لأنّ هذا مهمّ في كشف علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي ديناميكية العلاقة بينهم. الأغنية الأساسية تبقى "في قلبي غرام".

 

(*) لماذا، بعد دراستك الموسيقى، اتّجهت إلى السينما والمونتاج، ثم الإخراج؟

طوال حياتي، كنتُ أرغب في السينما. تقدّمت إلى "معهد السينما" 3 مرّات، ورُفضت فيها كلّها، كعشرات آلاف المصريين. لذا، كثيرٌ من الذين يعملون معي، أراعي أنْ يكونوا في حالتي ووضعيّتي، أي أنْ يكونوا حاولوا الالتحاق بـ"معهد السينما" للدراسة فيه رسمياً، ورُفضوا، أو لم تُتح لهم الفرصة.

 

(*) كيف حقّقت حلمك؟

طوال حياتي، أحاول أنْ أقرأ وأنْ أقترب من السينما، بشكل أو بآخر. عندما فشلت في الالتحاق بـ"معهد السينما"، والموسيقى حبّي الثاني، قرّرت فعل شيء له علاقة بالفنّ، فاخترتها ودرستها. بعد مرور عامٍ أو عامين، قلتُ لنفسي إنّي سأكون "مزيكاتي"، وتخصّصت في ذلك، إلى درجة أنّي عزفت مرتين على آلة الـ"فيولينة"، على خشبة "المسرح الكبير".

لا بُدّ أنْ أعترف أنّي لم أكنْ أبداً عازفاً ماهراً، فالعزف يحتاج إلى تدريب مُضنٍ، والموسيقيون يتعبون جداً كي يبلغوا منطقة متميّزة في الأداء والعزف. أما أنا، فلم أكن عازفاً متميّزاً، لأنّه لم يكن لدي ما يُسمّى... (لحظة تفكير)

 

(*) الشغف؟

(معترضاً) لا. بالعكس، لدي الشغف، لكنْ لم يكن لدي "الانضباط" في هذا التدريب. لم تكن لدي طاقة العزف، 6 ساعات يومياً، على هذه الآلة، "سُلّم طالع" و"سُلّم نازل". عدم قدرتي على الانضباط لعب دوراً.

 

(*) لكنّك، ببساطة، تفعل مع السينما أكثر من ذلك بكثير. يُمكن أنْ تمضي في عمل السينما أضعاف هذا الوقت، من دون ملل أو كلل. أعتقد أنّ السينما الشغفَ الحقيقي لديك.

نعم، صحيح. أنا جيّد في النظرية الموسيقية، التي أفادتني كثيراً عندما بدأت المونتاج. أعرف النظرية، وأنّ هذه الجزئية تأتي بدلاً من تلك، وتحتل هذا الموقع أو ذاك.

 

(*) كذلك أفادتك في الإيقاع.

ليس فقط الإيقاع، رغم أنّه أكثر شيء واضح في الموسيقى. لكنّ علاقة السلالم و"التونات" الخاصة بالأصوات المختلفة، والاختلافات بينها، ومحاولة التبديل بين هذه الأشياء، كلّها فرقت معي كثيراً بفضل معرفتي بالنظرية الموسيقية.

المساهمون