آلان غوميس (1/ 2): "جذبني غموض ثولونْيَس مَنْك في الأساس"

18 سبتمبر 2023
آلان غوميس: غموض ثولونْيَس مَنْك جذبني إليه، ثم الجاز (Getty)
+ الخط -

في خريف 1969، حلّ عازف الجاز العظيم ثولونْيَس مَنْك في باريس، على هامش جولة أوروبية، ليسجّل حلقة من البرنامج التلفزيوني "بورتريه جاز"، مدّتها نصف ساعة، أعدّها وقدّمها الصحافي وعازف البيانو هنري رونو. 50 عاماً بعدها، عَثَر المخرج السنغالي - الفرنسي آلان غوميس، في "المعهد الوطني للسمعي البصري (INA)"، على المادة الخام لهذا التسجيل (أكثر من ساعتين)، في بحثه التمهيدي لإنجاز فيلم تخييلي عن مَنْك.

مندهشاً بما اكتشفه، قرّر أنْ يترك مشروعه جانباً، لينجز فيلماً وثائقياً انطلاقاً من هذا الأرشيف، اختار له عنوان "أرْجِع وشَغّل (Rewind And Play)"، فيه متابعة لوصول مَنْك إلى المطار، ثمّ جولته القصيرة في شوارع باريس، فاستراحة في مقهى، قبل التوجّه إلى الاستوديو، حيث تبدأ الأشياء "الجدّية".

يُفصح سلوك هنري رونو، في التسجيل، عن ازدراء وصفاقة، وضعف إعداد، ومقاطعة متكرّرة لضيفه من دون أنْ يعتذر له. كما يطلب منه أنْ يُعيد إجابته، بدعوى عدم رضاه عن أدائه في طرح أسئلة يعوزها الذكاء، ويتوجّه إلى المخرج، بالفرنسية، بملاحظات غير لبقة عن إجابات الضيف. كلّ ذلك في ظروف تصوير مزرية، إذْ يُسلّط ضوء كاشف قوي على وجه مَنْك، ما يتسبّب في تعرّقه، فيبدو وحيداً ومعزولاً أمام البيانو، بينما تُسمع أصوات أعضاء فريق التصوير وخطواتهم خارج الـ"كادر"، من دون أنْ يهتمّوا به، أو يحنّوا على محنته. رغم ذلك، لا يكفّ عن الابتسام، والملاحظة الوحيدة التي يبديها تتمثّل في جملة مؤثّرة بارتباكها، بصيغة سؤال: "هذا غير جيّد؟".

معلومٌ أنّ أفلام المونتاج تفترض اختيارات إخراج راديكالية (تذكيرٌ بوثائقي سيرغي لوزنيتسا، "جنازة دولة"، عن وفاة ستالين)، بحكم محدودية هامش تأثير المخرجين على مادة لم يُصوّروها. تَحدٍّ يتفوّق غوميس في رفعه، بفضل اختيار عدم وضع تعليق صوتي أولاً، ثمّ العثور على الإيقاع المناسب عبر الشريط الصوتي، إذْ تجد القطائع و"الحزازات" الصوتية، التي تنطوي عليها الانتقالات بين اللقطات، انعكاساً وصدًى لها في الصورة (غَبْش وتشويش وتردّد)، مترجِمة شعور الألم الداخلي وعدم الارتياح الذي ينتابنا أمام ما يجتازه مَنْك، قبل أنْ يغوص الاختيار الرائع لإيراد مقطع عزفٍ طويل في دواخله، وكيف يتمثّل فنّه آلام الأفروأميركيين، جرّاء ويلات التفرقة العنصرية في نهاية الستينيات الفائتة.

"أرْجِع وشغّل" عملٌ كبير أيضاً عن سلطة المونتاج، وكواليس صنع الصور التي تجتاحنا ليل نهار على التلفزيون والإنترنت، والبون الشاسع بين عالم "الرومانسية السطحية" لما يُقدَّم، والحقيقة المُغيّبة في الكواليس. ولعلّ أفضل ما يترجمها تَغنّي المُقدِّم بـ"مدى شغف مَنْك بفنّه، إلى درجة وضع البيانو في مطبخه"، بينما الحقيقة أنّ المطبخَ المكانُ الوحيد الذي يتّسع للبيانو في مسكنه المتواضع، بسبب الضيقة المالية التي كان يعيشها، رغم أنّه كان في أوج عطائه الفنّي.

 

(*) نشأ الفيلم من تحضيرك فيلماً روائياً عن ثولونْيَس مَنْك. ما الذي جذبك، في البداية، إلى شخصية هذا الموسيقار الكبير؟

جذبني غموضه أساساً. بدأت الاستماع إليه عندما كنت طالباً، ثم أصبحت مُهتمّاً بموسيقى الجاز، بخاصة تلك التي كانت تُعزف في جنوب الولايات المتحدة. تنامى ذلك بالتوازي مع نهجي السياسي، إلى حدّ ما، المتمثل في اكتشاف الحركات التحرّرية، وانبثاق خطابات سياسية جمالية في أماكن عدّة في العالم، ومنها الأميركية - الأفريقية. كان للأفروأميركيين تأثير قوي جداً علينا.

لمَنْك شخصية فريدة في هذا التوجّه. كان غامضاً، لا يتحدّث كثيراً. لكنّه، في الوقت نفسه، قوي للغاية من الناحية الرمزية، لأنّه أرسى طريقته الخاصة في فعل الأشياء، بكلّ نزاهة وأصالة، من دون أنْ يُحوّله هذا إلى واعظٍ يجهر بوجهة نظره في مكبّرات الصوت، كما يفعل أحياناً الناشطون الكاريكاتوريون. لم يسعَ أيضاً إلى إرساء أي صورة مبتذلة عن نفسه. أعتقد أنه كان يتمتّع بقناعة الأسياد. إنّه شخصٌ من الطينة التي كلّما بحثت وراءها، اتّسع مجال البحث.

لهذا كلّه يُذهلني. أجد أنّ لديه الكثير ليعلّمنا إياه اليوم.

 

(*) في فترة التحضيرات، اكتشفتَ المادّة الفيلمية لهذا البرنامج التلفزيوني عنه. ما المشاعر التي أحسسْتَ بها عند مشاهدتك إياها أول مرة؟

أولاً، سُرِرت كثيراً لتمكّني من رؤيته خارج الصورة التي أرستها البرامج المعتادة. وجدتُ صوراً له، لكن ليس كثيراً. كان صعباً العثورُ على مادة يمكنك رؤيته فيها حقاً، لأنّ الجميع يقولون الشيء نفسه عنه. حصلتُ على مقاطع، يبدو أنّها تتناقض مع المعتاد، وكان واضحاً أنّ مشاهدتها ستشكّل مصدر سعادة عظيمة لي، وفائدة لفيلمي.

 

 

في الوقت نفسه، صُدمت تماماً بما رأيته. كان مَنْك موسيقياً عظيماً، ومُكرّساً حينها. اعْترُف بهذا، ودُعي إلى فرنسا بناءً عليه، ليستقبله أشخاص معجبون به. لكنّهم عاملوه كأنّه "حيوان سيرك"، نوعاً ما. كان هناك تَعال كبير في تصرّفاتهم، والصورة المُشكّلة عنه نمطية للغاية. كان مؤلماً أنْ ترى مَنْك، مع كلّ ما يمثّله، يَعبُر من نفس ما يمرّ به، بشكل أو آخر، أي شخص أسود أو عربي أو آسيوي، أو ما إلى ذلك، اليوم في فرنسا، حين يبحث عن شقة أو وظيفة. لن يُقال له أبداً لماذا يُرفض طلبه، لكنّنا نعرف جيداً السبب. معلوم جيداً ما يجري، لكنّ هذا لا يُقال أبداً. ندري جيداً أنّ ردّة الفعل هذه لن تحصل مع الآخرين. جميعنا نعلم ذلك، لكنّه أمر فظيع، ويحصل مع ابتسامة تعلو وجه شخصٍ يبدو أنّه لا يريد لك أي ضرر، لكنّ الأمر أصبح جزءاً من رؤيته، ومترسّخاً في فكره، حتّى أصبحت فكرة الحوار نفسها غير ممكنة معه.

أردتُ أنْ أُظْهر عمل الآلة التي تصنع باستمرار صُوراً مسبقة: "بغض النظر عمّا يقوله مَنْك، فإننا سنحذفه". جرى التخطيط للسيناريو مسبقاً. يعلمون أنّهم سيتحدّثون عنه، لذا رسموا عنه مسبقاً صورة "العبقري المصاب بالتوحّد"، التي حاربها دائماً. سهلة مواجهة العنصرية عندما تكون عنيفة، لكنْ ليس عندما تجري بلطفٍ وتعالٍ، لأنّها تنطوي عندئذ على شيءٍ خبيث. يعتقد مُقدّم البرنامج (هنري رونو ـ المحرّر) أنّه منفتح، وأنّه على العكس لطيف. لكنْ، كلّ جملة يقولها لك تذكّرك بمكانك في عالمه أو تصوّره، وهذا يؤلمك. بينما أنت هناك تحاول أنْ تتحدث مع أصدقائك، فيُقدّم كلّ منهم شهادته، فقط حتّى لا تصاب بالجنون (يبتسم بحرج)، لأنّ المشكلة مسكوتٌ عنها.

 

(*) نعم. أفهم ما تقصده.

مشاهدة مَنْك يمرّ بهذا أمرٌ فظيع. لأنّنا نقول لأنفسنا: "حتى هو لم تشفع له مكانته في تلك اللحظة". عندما ترى البرنامج كما جرت إذاعته، يبدو أنّ كلّ شيء سار على ما يرام. لكنّ الحقيقة مختلفة تماماً. طالما أنت كما يُراد لك أن تكون، فلا بأس. بمجرّد أنْ تبدأ في قول أو فعل الأشياء بشكل مختلف قليلاً، ستُحذف. نرى ذلك بوضوح في المادة الفيلمية.

 

(*) من خلال تحليل البرنامج كما أُذيع (30 دقيقة)، ما استنتاجك بشأن ما تقرّر أنْ يبقى وأنْ يُزال؟ ما مقاربة اشتغالك كردّة فعلٍ على نهجهم؟

بالنسبة إليهم، قرّروا أْن يبقوا عليه قليلاً بينما يعزف على البيانو، وعلى سؤالين صغيرين غير ضارّين من المقابلة: "ما نوع هذه القطعة؟" و"في أي سنة ألّفتها؟". واضح أنّهم أزالوا اللحظات كلّها التي لم تجرِ على ما يرام، ومعها الإجابات الأخرى كلّها لمَنْك. من ناحية أخرى، احتفظوا بالتعليق الذي يرويه الصحافي، وهو أيضاً عازف بيانو، عن حياة مَنْك وفنّه. احتفظوا به لأنّه مكتوب مسبقاً، ونحن نراه على الشاشة وهو يقرأه.

لذا، اخترتُ من جهتي أنْ أقدّم، في محاولة لقلب وجهات النظر، الصُّور بالترتيب الزمني، عبر جعل المشاهد يتخيّل أنّه مَنْك، يصل بالطائرة إلى باريس صباحاً، تستقبله كاميرا في المطار، ثم يُنقل إلى مكان لتناول القهوة، ثم يتوجّه الجميع إلى الاستديو، ليجد هناك أولئك الأشخاص حوله. بعد ذلك، لا يعرف حقاً ما يسألونه عنه أو يطلبونه منه. يتحرّكون حوله من دون أنْ يهتمّوا به. أردت قَلْب التصوّر، لمحاولة إظهار ما يمكن أن يكون الأمر من وجهة نظره.

المساهمون