في لقاء تلفزيوني، تحدث الشاعر السوري أدونيس عن إرث الشاعر اللبناني سعيد عقل (1912 - 2014). قال إن الخرق الأدبي الذي أحدثه عقل، لم يتجلّ فقط في إيجاده نموذج القصيدة العربية القصيرة، وإنما أيضاً، في ابتكاره الأدوات اللغوية والحلول الصياغيّة لأجلها.
تقنياً، ذلك بالضبط ما تمنّاه الأخوان عاصي ومنصور الرحباني لكلمات الأغاني. قصائد عقل، من حيث قصر الطول، ومن حيث طربيّة الوزن، بدت ملائمة تماماً لشكل الأغنية الشاعرية الحديثة، التي قد لا تتعدى حدود الدقائق الخمس، والتي شرعا بتلحينها وتسويقها زمانَ الستينيات والسبعينيات، لتغنّيها فيروز.
جمالياً، ثمة مظهران آخران لشعر عقل، أوُلِع بهما الرحابنة. صورة بلاغية، عالية التركيز، شديدة الكثافة، أشبه بوميض لغوي، ونزعة تصويرية، ابتعدت عن الخطابة، التي أَتخمت الشعر العربي، واختصت بالمشهدية، مقتربةً من الشعر الأوروبي زمن ما بين القرنين.
اجتماعياً، تَمسّك عقل بالتسامي في الحب، والعفّة في التعاطي مع المرأة شخصاً وموضوعاً، وما يرافق ذلك من عشق لا ينحل بالوصال، قد لا يسعى إليه أصلاً، بل ويترفع عنه، مكتفياً بالميلانكوليا المصاحبة له. قد ناسب ذلك هوية الأغنية الرحبانية. حشمة فيروز على المسرح وفي التلفزيون، وصوتها ذو الطبيعة الأثيرية، خصوصاً في طبقاته العليا، قد جسّدا حبّاً عذرياً، استجابت له ذائقة الطبقة الوسطى في الشرق.
"يارا" التي نُظِمت بالمحكية اللبنانية، تمثّل نموذجاً للقِران الفكري والجمالي الذي عُقد بين سعيد عقل والأخوين رحباني، ليرسى بموجبه عهدٌ غنائيٌ جديد. تبدأ الأغنية بمقدمة أُسنِدت إلى آلة البيانو، على شكل نبض منتظم يُقرع في المنسوب الداكن المنخفض من لوح المفاتيح. يُقابله في المنسوب الجهير المرتفع عنقود مؤلف من ثلاث نغمات، يُنثر بتواتر وثبات. ثمة بساط تنسجه مجموعة آلات الوتريات الواطئة، كالتشيلو والكونترباص، يُفرش من تحت البيانو. صيغةٌ توزيعية، تُركّز العتمة، تُرسي مشهداً مُوحشاً يوحي بعزلة تغصّ بحبٍّ مبُتعد، أو ممتنع. ترسم مخيالاً للمحبوب، تواسي به لوعة المُحبّ.
بذات الوقع الحزين، وعلى مستوى صوتي متوسط، تبدأ بالتحرك أمواجٌ من الوتريات الأشد ارتفاعاً، وإن حافظ مزيجها على اللون الداكن، تُصعّد الأمواج بتدرّج متأن يزيد من الإثارة الحسية. لُحّنت النغمات على شكل خُماسيات لم تعهدها الأغنية العربية، تُذكّر بموسيقى شعوب أقصى شرق آسيا، أفاد منها مؤلفو الحقبة التعبيرية المبكّرة في فرنسا أوّل القرن العشرين؛ إذ عُرفت عنهم استلهاماتهم الجمالية لتيارات ما بعد الحداثة الإنطباعية والرمزية في الشعر والفنون التشكيلية.
ينسجم كل ذلك مع رموز سعيد عقل البلاغية. كما أن لتلك التراكيب النغمية خاصية لا قطبية، لجهة شُحنها الحسية. حيث تسكن بالغشاوةً الفاصلة ما بين المُبهج والكئيب، فتحتفظ بالحياد العاطفي، وبانفتاحه على احتمالات التأويل.
كما جرت العادة الرحبانية، استيعاباً لخامة حنجرتها واستثماراً في مداها المُجدي، ينبع صوت فيروز في منسوب متوسط من اللوحة الموسيقية، التي رسمتها المُقدمة الانطباعية بألوان داكنة من بيانو ووتريات. صوت الأكورديون يلازمها كالظل، أو الصدى، تغني "يارا الجدايلها شقر"، عن طريق إدخال "ال" التعريف على كلمة "جدائل"، محل الاسم الموصول، "التي"، يطوّر عقل صيغةً مألوفة لدى اللغة المحكيّة في منطقة الشام. بها، يركّز النص على الوصف من خلال الجملة الاسمية، بدلاً من الإخبار بمجرد الاكتفاء بالمبتدأ والخبر، فيُبدع من الإيجاز نسقاً إيقاعياً مُكثّفاً.
بذات الكثافة، إمساكاً بالوزن، وبما لا يتجاوز الثلاث مفردات، يصف جدائل يارا في البيت التالي، بأنها من الطول، بحيث إن عُقدتا معاً، فستتأرجح عليهما حياةٌ بأكملها. التركيز في الصياغة عند عقل، يُتيح للأخوين رحباني أن يلحّنا كل بيت بأربع نغمات فقط، فيتركان الموسيقى تفتح الباب أمام خيال المستمع، ليتأمل الصورة الشعرية عبر فواصل السكوت.
عند "كل نجمة تبوح بأسرارها"، يتّسع الوزن بامتداد الجملة. يستثمر الرحابنة الامتداد بغية خلق توتّر نغمي، لا يلبث أن ينحل في لفظ اسم "يارا". أما الاسم، فيتناهى كما لو كان بيت قصيدةٍ بحد ذاته، لوقعه الصوتي الآسر وإيقاعه المفتوح على المدى. هكذا، يُسمع في معرض الأغنية، كما لو كان ترنيمة، أو كوبليه يدور، وتتمحور حوله القصيدة باستمرار.
في المقطع التالي، يُحافظ البيت الشعري على اتساعه، ما يخدم تطور الأغنية. تزيد النغمات والوقفات ثم الإطالات عند الحروف الصوتية كما في "ضلّت تغنّي" إيحاءً بالاستمرار في الغناء، آخرها عند "الياء" منتصف كلمة "تطير"، حين يعلو صوت فيروز مجسّداً فعل الطيران. وعند "تدوزن الرياح أوتار الدنيا"، تُطلق الوتريات محلّقة على مستوى مرتفع، تتناهى كالصفير، دلالةً موسيقية على صوت الريح.
لن يهبط صوت فيروز والموسيقى التصويرية، نزولاً إلى لفظ يارا، إلا ليعاود كل منهما الصعود في معرض القسم المتوسط، الذي أُريد له أن يكون حيوياً وراقصاً؛ إذ يبدأ بمقدمة وترية شجيّة محمولة برفق على صنوج الدف، يحاور الوتريات كل من الأكورديون و"البوق الإنكليزي". يتناوبان على ترديد ذات اللحن، إنما في مناسيب تتفاوت في العلو والانخفاض، تمهيداً لدخول الغناء من جديد.
حال التسخين ستتوقف عندما يلمّ بيارا التعب، جراء حمل أخيها على ساعدها، والغناء له طويلاً لكي يغفو. بحركة سينمائية أخّاذة، يُوجَه عقل عدسة القصيدة مُقرّبةً نحو السوار المُتحلّق حول ساعد يارا، فتلتقطه متعباً، أو تُسقِط عليه التعب. ملامح الوهن على مقربةٍ من الختام، تُثير القلق، فتتوقف الصنوج عن الضرب الرقيق.
الإشارة إلى صفرة الوجه، ولو قليلاً، الصلاة من أجل الأخ الصغير، بينما يوْدع السرير، من أجل أن يصير كبيراً، ثم مشهد الشمس وهي تغيب؛ كلها إشارات ميلانكولية، تستحضر صور الزوال والأفول، كما لو آلت القصيدة مرثية، أتراها ليارا، لأخيها أم للشمس؟ فتؤدي بالموسيقى من جديد، إلى الغوص في مزاج الكآبة الذي صبغ أجواء البداية، مُعيدةً الأغنية إلى القسم الأول.