"نتفليكس": الرداءة أسلوبٌ لكنّ الحِرفية حاضرةٌ

28 يناير 2022
أوليفر ستون: انتقاده "نتفليكس" غير موفَّق (بول ماروتّا/Getty)
+ الخط -

 

تُثير "نتفليكس" ضجيجاً، بسبب أعمالٍ بصرية (أفلام، مسلسلات، سلاسل) تُنتجها أساساً، إذ إنّها تشتري حقوق عرض إنتاجات أخرى أيضاً. الضجيج عربيّ غالباً، لكنّ بعض الغرب منزعج من سلوكٍ، يراه (هذا البعض) مُسيئاً إلى السينما، تحديداً. سينمائيون غربيّون يرفضون منطق المنصّة الأميركية (29 أغسطس/آب 1997) في إنتاجها الأفلام، لكنّ بعضهم ينخرط في إنتاجاتها، مُنجزاً أفلاماً تُظهر عكس ما يرفضونه سابقاً. الأموال متوافرة بكثرة، والمنصّة تُدرك تماماً أنّ تعاونها مع سينمائيين، فاعلين في المشهد الدولي، إضافةٌ نوعيّة لها، تُوازن، إلى حدّ ما، براعتَها في إنتاج رداءةٍ بصرية، لن يكون الجنس سبباً لها (الرداءة)، كما يتردّد عربياً على الأقلّ، بل أنماط اشتغالٍ وإخراج وتمثيل، إلى مواضيع وآليات معالجة درامية وجمالية.

الضجيج العربي مبنيٌّ، بغالبيّته الساحقة، على مفاهيم مبتورة للأخلاق والقِيَم الاجتماعية والموروث الثقافي، المتعلّق بتربيةٍ وأشكال علاقات. هذه، بمعظمها، تُمارَس في الاجتماع، يومياً، وأحياناً كثيرة في خفاءٍ مقصود، لكنّ عملاً ما يُعرض على منصّة أميركية يُصبح إهانةً لأخلاقٍ وقِيَم وموروثٍ، تتعرّض كلّها لإهانات دائمة من عربٍ، أساساً. ازدواجية مُقيمة في صلب حياةٍ عربيّة، تهزّها أعمالُ منصّةٍ تبغي ربحاً مالياً في زمنٍ، يزداد فيه الركون إلى أحدث التقنيات لمواكبة تبدّلات العصر (هذا يحتاج، بدوره، إلى نقاشٍ)، ويمنحه كورونا فرصة ذهبيّة لتسلّطٍ متنوّع الأشكال والأساليب.

المناهضون العرب لـ"نتفليكس" (يندر أنْ يُناهِض عربٌ منصّات أخرى منتشرة في العالم منذ أعوام وأعوام، لجهلهم إياها، أو لصعوبة الاشتراك العربيّ فيها، أو ربما لهيامٍ "لا واعٍ" بالأميركي، رغم رفضٍ "واعٍ" له)، يريدونها ناطقةً بما يتوافق وتعاملهم العلنيّ مع مسائل وحالات. يظنّون أنّ عملها منصبٌّ فقط على تلبية رغباتهم التي يُظهرونها. يُثيرون صخباً لا طائل منه ولا فائدة، من دون أدنى تفكيرٍ في كيفية مواجهة ما يصفونه بوحشٍ، ينقضّ على عاداتهم وتقاليدهم وقوانين عيشهم، بعيداً عن كلّ ضجيج وصراخ وغضب ودعاوى قضائية وكلامٍ فارغ. يُهاجمون منصّة تعمل لمصالحها الخاصّة، لكنّ غالبيتهم "يشتركون" فيها لمشاهدة صنيعها متنوّع الأشكال والمضامين.

المسألة غير مرتبطة بعربٍ، يتعاملون مع "نتفليكس" بعداءٍ غير مُبرَّر. في الغرب، سينمائيون يرفضون المنصّة وأسلوب اشتغالها، فيُقولون كلاماً يُحثّ على نقاشٍ. آخر منتقدي المنصّة أحد كبار في السينما الأميركية. مُخرجٌ معروف بتمرّده على المؤسّسة الأميركية الحاكمة، وبذهابه بعيداً في تفكيك شيءٍ من تاريخ أميركا وناسها واجتماعها وإعلامها وأنماط تفكيرها وتبدّلاتها، من دون التغاضي عن أمورٍ أخرى أيضاً، يجد فيها ما يُحيل إلى بلده وشؤونه، وإلى ناس بلده وشجونهم. أوليفر ستون ـ المنهمك في كشف خفايا جديدة عن اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي (22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963)، كانهماكه دائماً في قراءة سينمائية معمّقة لأميركا، في محطّات عدّة من سيرتها ـ يقول إنّ "نتفليكس" تقترح "وثائقيات مُسلّية عن الأسود والنمور" (المجلة السينمائية الفرنسية "بوزيتيف"، ديسمبر/كانون الأول 2021).

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

جملة واحدة، بكلماتٍ قليلةٍ، تشطب نتاجاً وثائقياً مهمّاً تصنعه المنصّة، أو تكتفي بعرضه على شاشتها. جملةٌ واحدة تختصّ بالوثائقيات، من دون أدنى إشارة إلى روائياتٍ، تميل غالبيتها إلى رداءة اشتغال ومعالجة، على نقيضٍ واضحٍ لوثائقيات تعكس، أقلّه في الأعوام القليلة الماضية، حِرفية باهرة في تحويل مستندات ووثائق وتسجيلات صوتية وبصرية وصُور فوتوغرافية وريبورتاجات إعلامية إلى سلاسل وثائقية، تكشف جديداً، أو توضح قديماً. الرداءة حاضرةٌ في "نتفليكس"، كما التسلية التي يُقدّمها نتاجٌ يستحيل وصفه بالسينمائيّ. لكنّ الحرفية المهنية، بأبعادها المختلفة، سمة لها أيضاً.

الرداءة مطلوبة، لأنّها الأسهل في تقبّلها، والأبسط في تسليتها، والأخفّ في إنتاجها. لكنّ الوثائقيات، أقلّه تلك المعروضة مؤخّراً، تكشف براعةَ إنتاج، وجمالَ توليف، وعمقَ اشتغال، وهذا كلّه منصبٌّ أساساً على أفرادٍ لهم مكانتهم وحضورهم في المشهد العام، وبعضهم غير معروف جماهيرياً، كمافياويين أو نازيين سابقين ودائمين. أفرادٌ لديهم مريدون ومتابعون، أمثال بريتني سبيرز ("بريتني ضد سبيرز" لإلِن لي كار) وجويل شوماخر ("شوماخر" لهانس ـ برونو كامرتونس وفانيسا نوكر ومايكل واك) ومالكولم إكس ("من قتل مالكولم إكس؟" لراشيل دْردْزِن وفِلْ برتلسن) وآرون إرنانديز ("القاتل في الداخل: عقل آرون إرنانديز" لجينو ماكدرمت). هناك أيضاً "مصنع أميركي" لجوليا رايكرت وستيفن بغْنار، و"مدينة الخوف: نيويورك ضد المافيا" لسام هوبكنس، و"أخطر رجل في أوروبا: أوتّو سكورزيني في إسبانيا" لبيدرو دي إينشافي غارثيا وبابلو أثورين ويليامس.

هذه أمثلةٌ قليلة، لن تكون دفاعاً عن منصّةٍ تصنع كلّ شيءٍ، انطلاقاً من ثقافة أصيلة في تفكيرها: الربح، ولا بأس بنتاجٍ جدّي ومُفيدٍ ومهمّ، بين حينٍ وآخر. تجربتها مع مهرجان "كانّ" السينمائي، في دورته الـ70 (17 ـ 28 مايو/أيار 2017)، تمرينٌ لها على كيفية استقطاب مهرجانات دولية أخرى، أبرزها "فينيسيا"، وتطويعها لمصلحتها. في "كانّ"، ينتقد الإسبانيّ بيدرو ألمودوفار، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية حينها ـ بمواربة ذكية ـ أفلاماً تُنتجها منصّة، ومهرجاناً يعرض أفلاماً تُنتجها منصّة، ملمِّحاً ـ بما يُشبه الحزم ـ إلى رفضه المطلق منح جائزة من مهرجان إلى فيلمٍ لمنصّة.

فيلمان لـ"نتفليكس" يُعرضان حينها في المسابقة الرسمية، "حكايات ميروفيتس" للأميركي نواه بومباخ و"أوكجا" للكوري الجنوبي بونغ جون ـ هو، فيُهاجِم المهرجانَ موزّعو الأفلام وأصحاب الصالات في فرنسا، لأنّ "نتفليكس" ترفض عرض أفلامها في الصالات التجارية. منذ الدورة التالية، يُلغى كلُّ اختيار لأفلامها، بينما تختار مهرجانات أخرى أفلاماً لها، مع موافقة على عرض تجاري لفترة قصيرة.

أفلامٌ روائية مختارة في مهرجانات دولية تمتلك شيئاً كثيراً من جماليات سينمائية، قابلة لنقاشٍ نقديّ. "روما" (2018) للمكسيكي ألفونسو كوراون ـ الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا" ـ أبرزها. نتاجاتٌ أخرى تتفرّد بها المنصّة وتُثير شغف مُشاهدةٍ ومتعة متابعة ورغبة في نقاشات، يُحقّقها مخرجون يمتلكون تاريخاً سينمائياً باهراً وسجالياً ومهمّاً، أمثال مارتن سكورسيزي مع "الإيرلنديّ" (2019)، وديفيد فينشر مع "مانك" (2020). هناك روائع أخيرة: "كانت يد الله" لباولو سورّنتينو، الفائز بجائزتي "الأسد الفضّي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" و"مارتشيلّو ـ ماستروياني لأفضل أمل" (فيليبّو سكوتّي)، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا"، و"قوّة الكلب" لجاين كامبيون، الفائز بجائزة "الأسد الفضّي" لأفضل إخراج، في الدورة نفسها للمهرجان نفسه.

المؤكّد، رغم كلّ شيءٍ، أنّ "نتفليكس" ـ بسبب سياساتها الإنتاجية ـ ستظلّ تُثير نقاشاً نقدياً قليلاً، وضجيجاً صاخباً أكثر.

المساهمون