"كلشي ماكو" لميسون الباجه جي: لغة بسيطة وعميقة

20 ديسمبر 2021
ميسون الباجه جي: القبض سينمائياً على الشخصيات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تستعيد المخرجة العراقية ميسون الباجه جي، في فيلمها الروائي الأول "كلشي ماكو" (2021)، أعوام شدّة الاحتراب الطائفي في بغداد أواخر عام 2006، تاركةً مسافة بينها وبين الحدث، ومانحة نصّه المكتوب (السيناريو لها، بمشاركة إرادة الجبوري) مساحةً لعرضِ أكبر قدر من الخراب، الذي حلّ بالعراق، وأحال حياة الناس في مدنه إلى جحيم، العيش فيها مُكلفٌ، روحياً ونفسياً وجسدياً.

التمزّق والنزف الحاصلان في النفوس يُغوي المهموم بعرضهما، مع تنويع القصص الدالّة على التوصيف. هذا يقود إلى توسيع مساحات السرد، وتعدّد مستوياته، ويفرض على السينمائي ملاحقة أبطاله، وإتمام مشوارهم الدرامي. الانشغال بها يُقرّب الفيلم من الوصفية أكثر من المراجعة النقدية للفترة التاريخية المراد كتابتها سينمائياً. هذا خيار متروك لصانعه، والمهمّ عند المُشاهد أسلوب معالجته لها، وجماليات الاشتغال عليها، سينمائياً.

توسيع مساحة القصّ يُلازم، أحياناً كثيرة، الفيلم الطويل الأول. فيه، يريد صانعه قول أفكار وطرح مواقف كثيرة، دفعةً واحدة. فيه، يجد فرصته المنتظرة، أو التي طال انتظاره لها، لصعوبات حقيقية تواكب عادة إنتاج فيلمٍ مستقل، خصوصاً في بلد كالعراق. هذا يُلاحظ في "كلشي ماكو"، كما تُلاحظ أيضاً شدّة انتباه ميسون الباجه جي إليه، والحرص على ألاّ يفلت مسار الحكايات ومصائر الشخوص منها. ربما يدفع ذلك إلى إطالةٍ وتَوَزّع. لكنْ، لا بأس إذا ظلّ الخيط الرابط بينها مشدوداً، فبغداد في تلك اللحظة الحرجة كانت مشتّتة، وأهلها منقسمين. لهذا، تغدو معرفة الآخر، حتّى القريب، صعبة.

لكلّ شخصية في "كلشي ماكو" حكاية خاصة بها، ترتبط ـ بخيطٍ رفيع ـ بأخرى، لها صلة بها. كحكاية سارة (أداء بارع للممثلة دارينا الجندي)، التي تكاد تكون مركزاً، لكنّ التَوزيع الحاصل في المشهد البغدادي لا يمنحها ذلك التَميُّز. ففي جوارها، تدور قصصُ آخرين، بتداخلها في ما بينها يُكتب ـ سينمائياً، بلغة لافتة للانتباه في بساطتها وعمقها ـ جانب من مشهد الحرب الطائفية.

لا تُحاكِم ميسون الباجه جي أحداً. تترك لأبطالها حقّ اختيار مواقفهم. تعرف أنّ مصائرهم ليست بأيديهم. هناك محرّك خفيّ يُدير المشهد التراجيدي العراقي، ويقف بعيداً، وينظر ـ كإلهٍ إغريقي ـ من علوٍّ إلى الأرض، التي تجري عليها وقائع، أعدّها مسبقاً، وأجبر الناس على مجاراتها.

 

 

لا يلحّ نصّ "كلشي ماكو" على السياسة، إذْ يهتمّ أكثر بما تتركه ممارساتها لحظة الانقسام المريع بين الناس. البحث عن الفرد، ونزاعه الوجودي مع ذاته ومع الآخرين، في خضمّ الخراب العام، مُتعبٌ، ويحتاج المتصدّي له سينمائياً إلى فهمٍ جيّد لما يجري، وإلى تعاطفٍ مع ضحاياه. النصّ (على الورق) يوفّر لميسون الباجه جي جانباً من ذلك، لكنّها لا تكتفي به، فتأخذ بنفسها ما تريده منه، وتعيد صوغه سينمائياً. الاشتغال السينمائي ـ تصويراً (جوناثان بلوم) وتمثيلاً وتقنيات (هندسة الصوت لأندريه ستيبه، الموسيقى لماريو شنايدر وإحسان الإمام وخيام اللامي) ـ يجعله مُنجزاً سينمائياً عراقياً، لافتاً في صدقه وشجاعة قوله، ويتساوى مع قليلٍ يشبهه، ابتعد (القليل) عن الكليشيهات إلى حدّ كبير، مائلاً إلى توصيف وعرض مشهد الخراب والاحتراب، عبر قصص شخصياتٍ مُتعَبَة، لا تتحمّل حتّى ثقل شارة البطولة، كشخصيات "شارع حيفا" (2019) لمهنّد حيال.

عبارة "كلشي ماكو" سومرية الأصل، تمّت عرقنتها كعنوانٍ للفيلم المعروض في "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ43 (26 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 5 ديسمبر/كانون الأول 2021) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي". عبارة ساخرة في متنها، ومتناقضة مع ما يجري من انقلابات دراماتيكية، تطاول حياة العراقيين جميعاً. منها، أخذت ميسون الباحه جي عينات، جسّدتها تمثيلاً في سياق وجودها المكاني المشترك، الذي يشهد لحظتها اقتتالاً دموياً وتحارباً طائفياً، لا يعرف من عاشه متى يأتي الموت إليه.

سارة، الكاتبة والمترجمة، تريد حماية ابنتها ريما (زينة جودة). هاجسها الأكبر تجنيبها معرفة حقيقة ما يجري من فظائع حولها. المُراهق حيدر من دون عمل، ووالده (محمود أبو العباس) يريد الانتقام من قتلة والدته، وكمال (باسم حجار) يتنظر مولوده الجديد بلهفة، والزوجة لا تفارقها فكرة خسارتها أولادها من زواجها الأول. آخرون مثلهم يريدون الخلاص بالرحيل، أو يائسون ومستسلمون لأقدارهم. يعرفون أنّ الموت يتربّص بهم، ربما يأتيهم من انفجار، أو قتل بعد خطف، أو برصاصة طائشة. حتّى الحبّ في زمن الحروب الأهلية لا مكان له. صديقة لسارة تندب الزمن وحظّها الذي أضاع منها حبّها الأول، ولا تريد نسيانه. الأسى يأتي من كلّ صوب ويملأ المشهد. أغنية لفيروز تغنيها الصديقتان تُكثّفه: "صباح ومسا، شي ما بينتسى، تركت الحبّ وأخذت الأسى".

الأسى طاغٍ في "كلشي ماكو". يتسرّب إلى مُشاهده، فيُشعره بحزنٍ عميق على بلدٍ ومدينةٍ، حلّ بهما الدمار، وخرّبت الحرب أرواح من عاش فيهما. المشهد القصير لأمٍ عراقية مُلفّحة بالسواد (ريا عاصي)، فَقَدت ابنها وعثرت على اسمه بين المفقودين، يقول الكثير. صمتُها في اللحظة الصادمة، وشرود ذهنها عن كلّ ما يحيط بها، يبدوان كأنّهما دهرٌ طويل، مُحمّل بأسى، منقول إلى الشاشة بصدق واشتغال سينمائي، جماله لافت للانتباه.

المساهمون