"كانت يد الله": لباولو سورّنتينو السينما لغةً وتفاصيل وشخصياتٍ وحكايات

24 ديسمبر 2021
باولو سورّنتينو وفيليبّو سكوتّي: يد الله أم قدر حياة ومدينة واناس؟ (ستيف جانينغز/Getty)
+ الخط -

 

"كانت يد الله". تعبير متداول بكثرة منذ إطلاقه على هدفٍ يُحقِّقه الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا في مرمى المنتخب الإنكليزي، في مباراة ربع النهائي (22 يونيو/حزيران 1986) لبطولة كأس العالم في كرة القدم، في نسختها الـ13 (31 مايو/أيار ـ 29 يونيو/حزيران 1986). هدفٌ يُوافَق عليه، ما يؤدّي إلى فوز المنتخب الأرجنتيني بالكأس، في المباراة النهائية ضد منتخب ألمانيا الغربية (3 ـ 2). هدفٌ باليد اليُسرى، لن ينتبه إليه الحكم التونسي علي بن ناصر، فتتبدّل مسارات، وتُصنع أقدارٌ.

يتحوّل التعبير ـ بعد 35 عاماً ـ إلى عنوان فيلمٍ إيطالي، يُنجزه باولو سورّنتينو، فيُترجم إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية بـ"يد الله"، الفائز بجائزتي "الأسد الفضّي ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" و"مارتشيلّو ـ ماستروياني لأفضل أمل" (فيليبّو سكوتّي)، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي". والفيلم ـ إذْ يُلغي كلّ حدّ فاصل بين سيرة ذاتية ووقائع مرحلة واختبارات فردية ـ يلتقط نبض حياةٍ يعيشها أناسٌ مُقيمون في نابولي، في ثمانينيات القرن الـ20، الشاهدة على انتساب مارادونا نفسه إلى فريق كرة القدم، في تلك المدينة الإيطالية. مرحلةٌ يوثّقها البريطاني (ذو الأصل الهندي) آسيف كاباديا، في "دييغو مارادونا" (2019)، أحد أجمل الأفلام الوثائقية صناعةً وتوليفاً واشتغالاتٍ، وأقدرها على كشف وقائع وخفايا ذاتٍ وعلاقاتٍ، وعلى سرد حكاية وتفاصيل استناداً إلى أرشيف مُصوَّر، فقط لا غير.

لكنّ مارادونا لن يظهر في "كانت يد الله" لسورّنتينو (نتفليكس)، إلّا في ثوانٍ قليلة، وعبر شاشة تلفزيونية، تنقل إحدى المباريات المحلية، رغم أنّ سورّنتينو يُقدّم جديده هذا بقولٍ له: "فعلتُ ما بوسعي. لا أظنّ أنّ مستواي كان سيئاً للغاية". وأيضاً، من خلال فابيتو سكيسا (سكوتّي)، المهووس بمارادونا، والراغب في دراسة الفلسفة، والساعي إلى السينما بعد فقدانه والديه في حادثٍ منزلي سخيف (ثاني أوكسيد الكربون). يختفي مارادونا في سياقٍ دراميّ (130 دقيقة)، يبحث في تفاصيل عائلية بحتة، تقول إنّ هناك شيئاً أساسياً من سيرة مخرجٍ، وحكاية عائلة، وواقع مدينةٍ.

هذا مكتوب بمزيجٍ من سخرية وكوميديا ودراما عائلية، يُضاف إليها قلق وارتباك ناتجان من هول صدمة الموت، والبحث عن أجوبة لمستقبلٍ غير ظاهرٍ، وعن خلاصٍ غير مرئيّ.

 

موقف
التحديثات الحية

 

السينما حاضرةٌ ليس في اشتغالٍ فقط، بل في صلب مسارٍ يروي حكاية فابيتو من خلال عينيه وأحاسيسه ورغباته، وبعض الرغبات مكبوتٌ. وفاة الوالدين، سفيريو (توني سرفيلّو) وماريا (تيريزا سابونانجلو)، تحوّلٌ جذري في سياق الفيلم ومسار فابيتو. الهناء والسكينة، والتفاصيل المثيرة للضحك بسخرية كبيرة وحادة وجميلة، تُصبح كلّها جحيماً يجهد المراهق في الخروج منه: أول تجربة جنسية مع البارونة العجوز، التي تريده أن ينظر إلى المستقبل بفضل التجربة الأولى تلك. البحث في السينما عن منفذٍ، عبر لقاء مع مخرجٍ يُدعى ريدْجِيّا كابْوانو (دْجِنّارو دي سْتِفانو)، يضعه أمام مرآة ذاته بقسوةٍ، لن تردعه عن الخروج من مدينته إلى أفقٍ آخر، يُعتَقَد أنّه سيكون روما، "لأرى إنْ كنتُ مؤهّلاً لأصنع أفلاماً".

كابْوانو نفسه يسخر منه بشدّة: "روما؟ الهروب العظيم. الإلهاء"، فبعد روما، "تعود إلى نفسك، وتعود إلى الفشل". السخرية، وأيضاً القسوة والتحريض على اكتشاف الأهمّ، فالمدينة هذه مليئة بالقصص، وعلى المرء أن يروي قصصه. كلامٌ عن السينما، كذاك الباحث في العلاقات والجنس والحبّ والتمثيل، بلغة مبسّطة وعميقة، وبشفافية لن يردعها شيءٌ فتُصبح تعذيباً، يُراد منه اغتسالٌ وتطهّر، وولادة أخرى.

أسماء مخرجين تحضر، أبرزهم فرنكو زيفيريلّي وفيديريكو فيلّيني. الهوس بالرياضة متساوٍ والهوس بالسينما. الحِيَل التي تصنعها ماريا تعكس شيئاً من رفاهية عيشٍ وطمأنينة. الخيانة الزوجية، رغم الحبّ الكبير، لن تحول دون استكمال ذاك العيش الهادئ، قبل حلول الموت، في مشهدٍ رائعٍ، يعكس عمق ذاك الحبّ، واستحالة اختراق الخيانة له لتحطيمه.

تناقضات العيش اليومي ماثلةٌ في تفاصيل وأهواء وأمزجة. شخصياتٌ تبدو كأنّها خارج الواقع، لكنّ حضورها الأشبه بالفانتازيا يقول إنّها أكثر واقعيةً من أي شيءٍ آخر. دانيالا سكيسا (روسّيلا دي لوكّا) تمضي وقتها في الحمّام، مع اكتفاءٍ سينمائي بسماع صوتها بين حينٍ وآخر، وإنْ نادراً. خروجها من الحمّام، قبيل لحظاتٍ على النهاية، دليلٌ على تبدّل عادات ومسارات. الجدّة والبارونة نموذجان نسائيان يُذكّران، ولو قليلاً، بنساء فيلّيني. الراهب الصغير، والفانتازيا المرافقة لزيارة باتريزيا (لويزا رانْييري) له، تعكس شيئاً من أوهامٍ، رغم أنّ فابيتو يلتقيه في محطة القطار، إذْ يأتي (الراهب الصغير) إليها لوداعه من دون كلام.

هذا يعني أنْ لا حَدّ بين واقعٍ ومتخيّل، أو بين حياةٍ وأوهامٍ. هذا يعني أيضاً أنّ الواقع متخيّل والعكس صحيح، وأنّ الأوهام حياة والعكس أصحّ.

المساهمون