كلّ شيء يبدو كأنّ شيئاً لن يحدث. مسارات عادية لأناس بسطاء، يُقيمون في همومٍ غير متناهية، ويلجأون إلى أنماط عيشٍ لتمضية وقتٍ ثقيل. هذا الإحساس بأنّ شيئاً لن يحدث يزداد ضغطاً، بسبب وفرة ألوانٍ غامقة ورمادية، وطقسٍ شتائيّ، وليالٍ طويلة، وانعدام كلّ ابتسامة أو ضحكة (باستثناء لحظاتٍ نادرة). أفرادٌ يظهرون في المشهد بشكلٍ متتالٍ، فهُم أساس نصٍّ يكتبه الأخوان طرزان وعرب ناصر في "غزّة مونامور" (السيناريو مكتوبٌ بمشاركة فاديت درُوَار)، يرسمان فيه لوحاتٍ تعكس جوانب من نفوسٍ وانفعالات محمّلة بتعبٍ وأحلامٍ مبتورة، وبرغبة في خلاصٍ فعليّ غير مُقبل، إلا نادراً.
لكنّ الإحساس بأنّ شيئاً لن يحدث، وإنْ يتأكّد لحظة تلو أخرى، يروي الحكاية والحالة بكلامٍ لن يحول دون مشهديات صامتة، وقلّة المشهديات الصامتة تبدو كأنّها تربط المَشاهد بعضها ببعض، في سياق سلس يُتيح بعض ضحكٍ، وإنْ ينبثق من وجعٍ وأذيّة، ويقول بعض ألمٍ من دون ندب أو بكائيات. ففي قولٍ كهذا تحضر النكتة المرّة والسخرية الحادّة، التي تُحيل إلى وقائع حيّة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والعلاقات، بمواربةٍ تكترث بالصُوَر والإضاءة والأداء، لا بكثرة كلامٍ. فالثرثرة منعدمة، والكلمات مكثّفة، وتعابير العيون وحركات الأجساد وملامح الوجوه (ومعظمها واجمٌ) تبوح بغضبٍ وخيبة وانكسارٍ، وهذا غير مرتبط بوضع سياسي فقط، فالهمّ السينمائيّ للأخوين الفلسطينيين ناصر معقودٌ على هواجس فردية، كالحبّ والطلاق والزواج والهجرة والفقر وقسوة العيش، مع أنّ أبرز أسباب الانهيار، في الاجتماع والاقتصاد تحديداً، كامنةٌ في سلطةٍ تعتمد نهجاً متزمّتاً في أمور الحياة كلّها.
والسياسة تلك، بتزمّت مفاهيمها المنفلشة في الاجتماع والسلوك والتربية، تظهر بمواربةٍ يُتقن الأخوان ناصر كيفية صُنعها، فالهدف منصبٌّ على جعل الكاميرا (كريستوف غْرايّيو) تخترق حاجز الجسد والروح في الفرد، لكشف مكنونات يُمنع البوح بها. التعب، الجسدي والروحي، ظاهرٌ بكثرة؛ والرغبة في العثور على توازنٍ تحثّ على عيشٍ يبغي خروجاً من واقع، وعليه أيضاً. أحدهم يغادر إلى اغترابٍ، لكنّ أحداً لن يعرف مصير مغادرته. وأحدهم يتخطّى عوائق التزمّت في بيئته، كي يُحقِّق شيئاً واحداً مما يريد (الزواج). امرأة تعاني ترمّلاً، وطلاق ابنتها كارثة، وضيق العيش يزيد اختناقها فالعمل (تُحيك ملابس نسائية وتبيعها في محلّ ليس لها) مأزومٌ، وقواعد اليوميّ صارمة، والتنفّس غير متوفّر دائماً.
للشرطة حضورٌ، يتمثّل في مَظهرين: أفرادٌ يُنفّذون عملاً يكاد يقتصر على عيسى ناصر (سليم ضو)، الصيّاد الحاصل على تصريحٍ رسميّ لاصطياد السمك في حيّز بحريّ تُشرف عليه الشرطة؛ وضابط يوحي بلطفٍ، إذْ يتبرّع بإيصال عيسى والخيّاطة سهام (هيام عبّاس) إلى السوق، قبل أنْ يكشف عن وجهٍ حقيقيّ له، يتكامل مع وظيفته كسلطة بوليسية.
التفاصيل البسيطة والعادية تصنع فيلماً يمتلك جماليات صورة وتوليف (فيرونيك لانج) وموسيقى (رولان فاجس وبِدرو غويس وأندره ماتياس) وصوت (تيم ستفان). الروتين اليومي أساسي، فهو واقع يُصبح في الفيلم سيرة بيئة (قطاع غزّة) وأناسٍ، من دون تعميمٍ أو شمولية، فالمختارون نماذج محدّدة، ربما تعثر على أشباهٍ لها في البيئة نفسها. النصّ يُبسِّط الحكايات والانفعالات، ليقول حياةً متكاملة يُدركها كثيرون؛ والسياق مشغولٌ بإيقاعٍ سلس، يتابع مسارات البعض ومصائرهم، في تلك البقعة الجغرافية الضيّقة (مخيّم الشاطئ).
لكنْ، في مقابل "وضوح" مصير قلّة من أفراد "غزّة مونامور" ـ المعروض دولياً للمرة الأولى في قسم "آفاق"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، والمعروض ثانية في قسم "اكتشافات"، في الدورة 45 (10 ـ 21 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي" ـ كالصيّاد وصديقه علاء (هيثم العمري) وسهام مثلاً (وإنْ يكن كلّ شيء غير نهائيّ، فقسوة العيش اليومي في بؤرة ضيّقة غير مانحة أملاً بخلاصٍ كلّي)؛ فإنّ مصائر بعضٍ آخر معلّقة في فراغٍ أليم، كالابنة المطلّقة ليلى (ميساء عبد الهادي)، الباحثة عن جواز سفرها في المنزل، من دون أنْ تقول شيئاً عمّا تنوي فعله، فتغييب الأفعال المنوي ارتكابها جزءٌ من تقوقعها في مواجهة بيئة وأناس بيئةٍ، يرون في الطلاق عيباً إنْ لم يكن عاراً، خصوصاً أنّ ليلى شابّةٌ.
يكتفي "غزّة مونامور" بالروتين والتكرار اليوميين، فهما أساس عيشٍ وحياة في حصارٍ يزداد ثقلاً. والاكتفاء منطَلقٌ لقول الكثير عن تلك الحياة وذاك العيش، عبر شخصيات قليلة، تتصرّف بطبيعية مفرطة، بما فيها من بؤس وقلق وخوف، وسخرية وضحك وتحدٍّ، وإنْ يبقى التحدّي خفراً وغير مباشر. الوجوم طاغٍ، فالواقع مرير ومرارته متأتية من منابع عدّة، كالحصار الإسرائيلي لقطاع غزّة (لن يظهر إسرائيليّ، ولن يُحكى عن إسرائيليّ، ولن يكون للإسرائيليّ مكانٌ، باستثناء طلقات رصاص قليلة وبعض كلامٍ عبريّ يُسمَع من دون أنْ يظهر وجه قائله)، والسلطة الحاكمة، والتربية المتزمّتة (يُمنع التلفّظ بمفردة "الإله أبولو"، بل فقط بتعبير "التمثال"، الذي يعثر الصيّاد عليه، قبل تدخّل الشرطة). الوجوم قاتل، وضحكات عيسى وصديقه مثلاً تندرج في سياق المواجهة الصامتة للخراب.
كأنّ "غزّة مونامور" لوحةٌ سينمائية، يكتنفها الرمادي والوجوم والضحك الاستثنائيّ، لكنّها بالتأكيد مرآة صادقة وشفّافة، تعكس بالصُور وتفاصيلها شيئاً من حياةٍ مطلوبة، تريد نبضاً مختلفاً للمواجهة والاستمرار.