لا نناقش كثيراً موضوع مراقبة الصين لمواطنيها، كونه أصبح حقيقة لا جدل فيها، بل وقراراً سيادياً، يُعدّ الخوض فيه جزءاً من النظرية السياسيّة وأساليب الحكم. في حين أن الولايات المتحدة، ملأت الأخبار بفضائح المراقبة، سواء تلك الرسمية التي كشفها إدوارد سنودن، أو تلك التجارية التي نكتشف أن فيسبوك يمارسها. المثير للاهتمام، أن الفضائح الأميركية "أدسم"، كوننا جميعاً متورطين بها، ونستخدم فيسبوك وتويتر وغيره، لكن ما تقوم به الصين، شأن آخر.
أن نقول إن الصين تراقب "الجميع" أمر مبالغ فيه. لكن عملاً بما نصحنا به جوناثان هيلمان، مؤلف كتاب "طريق الحرير الرقمي"، قمنا باستخدام منصة shodan، التي تكشف عن الأجهزة المتصلة بالإنترنت، وكتبنا في محرك البحث كلمة Hikvision، وهي شركة كاميرات صينية، ليصبح الأمر أوضح، وقد صاغه هيلمان كالآتي: "النتائج تشبه خريطة توزع فيروس كورونا حول العالم"؛ أي بما معناه: إن الصين في كل مكان.
الشركة الصينية سابقة الذكر، تمتلك شراكات واسعة مع وزارة الدفاع الصينية، ناهيك عن انتشار كاميراتها في أنحاء العالم؛ في القواعد العسكرية والمجمعات السكنية والشوارع. وحصلت عام 2015 على دعم حكومي صيني بمقدار ثلاثة مليارات دولار، علماً أن أسعار الكاميرات منخفضة، بل وهناك عروض خاصة للمتعاقدين الراغبين بشراء كميات كبيرة. ونقرأ أنه في عام 2019، أنتجت الشركة ثُلث كاميرات المراقبة في العالم، وانتشرت مبيعاتها في 150 بلداً.
لن نتحدث عن دور هذه الكاميرات في مراقبة الأقليات في الصين واستهدافها، لكن لا بد من الإشارة إلى الفرصة السانحة التي تقدمها الصين للدول الديكتاتورية؛ إذ توفر لها أنظمة مراقبة رخيصة الثمن ومتوافرة بكثرة. ينسحب الأمر على التكنولوجيا الأخرى؛ الأجهزة المنزلية الذكيّة، والساعات الرياضية الرقميّة، والميكروفونات؛ فالصين توظف "إنترنت العالم" لخلق شبكة مراقبة عالميّة.
تختلف تقنيات الصين في المراقبة عن النموذج الرأسماليّ؛ هي تقليدية، وأقل شبهة؛ إذ لسنا بحاجة إلى خلق حسابات على أمازون وفيسبوك من أجل ضخ المعلومات. يكفي فقط امتلاك تكنولوجيا في المنزل. نقصد هنا الأجهزة البريئة ظاهرياً، مثل ثلاجة رقمية ذات كاميرا وشاشة، وأنظمة حماية منزلية، يمكن أن تتحول فجأة إلى أجهزة تجسس تبث "كل شيء" إلى الصين.
ما يثير الرعب في هذا الشأن هو تعدد من يراقبوننا، لم يعد هناك "أخ كبير" واحد، بل "أخوية"، لا نعلم بدقة كيف نتجنبهم، الأمر يتجاوز وسائل التواصل الاجتماعي، فالشوارع تحوي كاميرات، والمجمعات السكنية كذلك. ولا نعلم بدقة كيف ستستفيد هذه الأخوية من صور أوجهنا وأساليب حركتنا. المحزن أننا، كأفراد، نقف مكتوفي الأيدي: هل ننقطع كلياً عن العالم للنجاة؟ والأهم: ما هو سيناريو تفادي المراقبة إن كان موجوداً؟
كشف المحققون الدوليون، لاحقاً، تورط شركة المراقبة بانتهاكات حقوق الإنسان. لكن هناك تجاهلا لدور المراقبة ذات الذكاء الاصطناعيّ، وأثرها على سوق العملات مثلاً، أو العلاقات مع شركات البناء والخدمات لإعادة النظر في توزيع خدماتها. لكن ما يثير الحيرة، هو أن البديل دائماً، وبحجة الحفاظ على الأمن العالمي والوطني، يتمثل بالولايات المتحدة، والتأكيد على أهمية ريادتها في هذا المجال، من أجل الحفاظ على الخصوصية وأمن مواطنيها ومواطني العالم أجمع، الشأن الذي لا داعي للخوض في تحيزه، ناهيك عن أن الولايات المتحدة، تشكّل بديلاً لا يعول عليه، ولا يختلف عن الصين كثيراً، سوى بنظام اللعب والمشاركة الذي يورطنا فيه.
الشأن الآخر الذي يخبرنا عنه هيلمان، هو خضوعه لدورة تقدمها شركة المراقبة الصينية، وما أثار استغرابه هو أنه تعلّم كيفية تركيب الأجهزة وصيانتها، لكن من دون أي تعريف بإمكانية استخدامها بشكل سيئ، أو كيف يمكن تفادي انتهاكات الخصوصية وحقوق الإنسان، الشؤون التي ترتبط أحياناً بعوامل تقنيّة.
الواضح أمامنا أن الصين تعتمد في نظام مراقبتها على إغراق السوق والانتشار ضمنه، من دون التفكير بالمشكلات إلا لاحقاً، إلا إن كان هناك أجندة سريّة أو تقنيات لا نعلم بها، وهذا المرعب في الشأن، لا نعلم كيف يراقبنا الأخ الكبير، إذ أصبح جزءاً من الحياة اليوميّة، ومتماهياً مع "حياتنا" حد الاختفاء.