يتضاعف يوماً بعد يوم، حجم وجودة مشهد الراب العربي. يتخصص المغنون، أيضاً، بالمكان وهويته، وبتقلباتهم الذاتية الآنية، ليحملوها ويعبروا بها خارج الحدود الجغرافيا. تتنوع القضايا التي يتناولونها أيضاً؛ إذ يعبر كلٌّ بذاتيته عنها كهوية فريدة، لتتراوح ما بين عمق المعاناة التي يعيشها، وتفرده بمواجهتها، ومواجهة المكان وإفرازاته. يبني المغنون توجّهات أكثر ملاءمةً للمشهد العربي الغني بديناميكيته من حيث العينات الموسيقية المستخدمة، وتنوعها ومن جهة الحذاقة في الكتابة وتطور أساليب الإنتاج الموسيقي.
في ضوء ذلك، أصدر مغني الراب السوري، بو كلثوم، أخيراً، أغنية تحمل عنوان "صوّان"، من كلماته وألحانه وتوزيعه. أتت الأغنية منفردة بعد ألبوم "طالب"، ولم تبتعد كثيراً من جهة القصة والرسالة الخطابية عن إصداراته السابقة. ورغم أن أغانيه المنفردة دائماً ما تشكل نقلة في مسيرته وعبورها إلى جمهور أوسع من جمهور الراب، إلا أنها لم تكن موفقة بالعينات السمعية التي رافقت الكلمات؛ فوقعت "صوّان" في إطار مزاج بو كلثوم، أكثر من هوية استهلاك تكرارها.
يدخل هذه المرة صوت بو كلثوم المألوف لجمهوره بحدية أكبر بسبب الأوتوتيون (المصحّح النغمي). لكن هذا الأخير، يُستخدم هذه المرة في ما هو أبعد من التصحيح؛ فنحصل على امتدادات صوتية مع النفخيات بين الكوبليهات المتدفقة بجودة تحزين عالية، لتظهر الأصوات المحيطة وبعض علامات بيانو في الفواصل. ولم تبتعد عن النغمات الحالمة، رغم قساوة الكلمات.
فمع زيادة إشباع الصوت، يزداد لفظ القوافي عنفاً، لتوصل التناقض الحاصل في حياة بو كلثوم بين قسوته على الانتهازيين ومن يغدر به ويستغله، وطيبة قلبه على من وفاه الفعل والقول. حصلت "صوّان" على كليب مصور لم يرقَ لمستوى الأغنية نفسها، ووقع في الصورة التقليدية للعصابة في الراب الأميركي.
مرت رحلة بو كلثوم الشخصية والفنية منذ بدايتها مع تأسيس فرقة "لتلتة"، في عام 2011، بمنعطفات قاسية، أولها كانت الثورة السورية، ولاحقاً السفر إلى الأردن، وبعدها إلى مخيمات اللجوء في أوروبا، ليستقر في هولندا أخيراً. شملت مسيرته ثلاثة ألبومات، هي "أنديرال" (2015) و"البعبع" (2017) و"طالب" (2021)، إلى جانب العديد من الأغاني المنفردة التي حققت نجاحاً واسعاً، وتجربة لافتة بخلط موسيقاه بكلمات إنشاد وتضرع صوفي تحت عنوان "حضرة"، مكون من أربعة مقاطع.
أطلق أيضاً، في بداية هذا العام، أغنية "عالي"، التي اعتُمدت كشارة لمسلسل "بارانويا". ولم يقع في ملامة جمهوره الغاضب (جمهور الراب) على كل ما هو تقليدي وقديم ومُسيّس، أو الملامة النفسية الذاتية بسبب وصم المسلسلات بالتجارية السائدة، فهو يضمن جمهوره الذي أصبح يتماهى معه، ولم يخرج عن ذاتيته. بو كلثوم كتب ووزع ولحن الأغنية الشارة.
بهذا، استطاع تقديم أغنية تعبر عنه وتصب في مشروعه الشخصي، فوسع جمهوره أكثر كما يفعل الكثير من مغني الراب عند أدائهم لأغنيات دعائية أو شارات، كأغنية ويجز وأحمد مكي الدعائية لـ "تيلكوم". لم يوصم المغني الشاب بالمسلسل أو يتماه معه، وهذا أحد القوانين في عالم الراب، عدم التماهي مع المألوف.
بعد أن وضع بو كلثوم نفسه بعيداً عن كل المشاهد الفنية، نستطيع بموضوعية فهم تفرد هويته، فهو ينتمي زمنياً لبداية صعود مشهد الراب العربي في بلاد الشام، وأقام تعاونات ناجحة مع أهم الأسماء في هذا المشهد، كـ "الراس" و"الفرعي" و"الناظر" و"مليكة".
يضاف إلى ذلك، التزام بو كلثوم بقوانين الراب العامة، كاستخدامه لمعاناته وذاتيته بوصفهما حاملاً أساسياً لأغنياته، وذكر الشلة المقربة كمرجعية نفسية آمنة، واستنباط وتطوير أسلوبه الخاص بالكتابة، ووضع القافية التي تؤكد على الفاجعة في الحياة؛ فأصبح ممن يلقبون بالـ OG - Original gangster.
هذا لقب يُمنح لمن يملك الأقدمية والتأثير في مشهد الراب العام، والأهم بناء قاموسه الخاص من المصطلحات التي تدل على قصته، كحي ساروجة في دمشق، والتناقضات الاجتماعية للاجئين، واللجوء الجماعي السوري، والحديث عن السوريين بوصفهم الزنوج الجدد، كإحدى ثيماته المعترضة على استخدام قصة السوريين كمادة إعلامية. يضاف، أيضاً، الخليط الموسيقي من الإنشاد الديني والهيب هوب الراب والفانك والآر أند بي والسول، الذي أسس لأسلوبه كمنتج وموزع موسيقي.
لا نستطيع قراءة أغنية راب منفصلة عن كامل أعمال صاحبها، أو عن المشهد القادم منه. ففي النهاية، هذه قصته التي يكتبها وطريقة تفاعله مع الواقع، فيكونها من معاناة مر بها واستطاع تجاوزها. من يريد أن يسمع أو يقرأ عن شخص أراد أن يحقق شيئاً فحققه وانتهى. كيف نتخلى عن البطل ذي الألف وجه؟ من دون الأدوات الرئيسية التي ذكرت أعلاه، لا بطل ولا راب، ما أدى إلى تميز بو كلثوم بوصفه البطل الذي هُزم، واضطر إلى اللجوء والبداية من الصفر، ولم يتبقّ له سوى أصدقائه لينتصر لاحقاً، ويصبح غاضباً دائماً.
بهذا، فكانت ثيمات أغانيه الرئيسية تتدرج كمراحل عمره؛ فعبّر عن طفولته القاهرة، وفقره المدقع، وزحفه باتجاه طموحه وإدمانه المبكر في أغنية "دلوني"، ليصل إلى الحارة والثلة التي لا تتعدى على أحد، لكنها لا تقبل التعدي من أحد في أغنية "ألفا". وروى قصة أطفال سورية في التاريخ ضمن أغنية "قصة قبل النوم"، وشرح آثار الحرب النفسية المدمرة في "النيزك"، وفي "جوانا" يتساند في غربته مع الأصدقاء وفريق العمل وهم من يسميهم الحلقة المقربة.