"شكوى" فرح شاعر: انكسار امرأة

26 أكتوبر 2020
فانيسا مغامس في "شكوى": حكاية امرأة بلكنة مختلفة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

فيلمٌ قصيرٌ جديد للّبنانية فرح شاعر، بعنوان "شكوى" (لبنان ـ الأردن، 2020، 14 دقيقة)، يُعرض ـ للمرة الأولى دولياً ـ في مسابقة الأفلام القصيرة، في الدورة الـ4 (23 ـ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". الفيلم مُنجز بعد عامٍ واحد على "سكون" (2019، 14 دقيقة)، الذي يبدو تأسيساً لنمطٍ سينمائي، تريده شاعر مرآةً لوقائع عيشٍ يومي، ولتفاصيل اجتماعية تكشف شيئاً من أحوال بيئة وتربية وسلوكٍ.

المشترك بين الفيلمين كامنٌ في التحديد الواضح للبيئة، التي تنتمي إليها الشخصيتان النسائيتان الأساسيتان فيهما. المرأة محجّبة، تعاني ثقل حياةٍ غير قابلةٍ بها، وغير راضية عنها. ثقلٌ يتمثّل بفقدان راحة وسعادة وسكينة، وبوفرة خلل وانهيار وضغوط. ثقلٌ يكشف انعدام تواصل سوي بين المرأة ورجلها، ويفضح خفايا عائلية يُدركها كثيرون، لعدم تمكّنها من غيابٍ طويلٍ خلف جدران المنازل، وبين أفراد العائلات المقرّبين من الطرفين. ثقلٌ يفضح تقاليد متدَاوَلة في اجتماعٍ، يُعلي شأن الصفقات والمصالح على مشاعر الفرد ورغباته وهواجسه وحقوقه، خصوصاً بالنسبة إلى المرأة، إذْ يُطلَب منها فتُنفِّذ من دون قولٍ، وتؤمَر فتَطيعُ بصمت.

في "سكون"، يبلغ انقطاع التواصل بين الزوجين حدّ خرابٍ، تُصاب به مريم (هبة سليمان الحمد) في وقتٍ مديدٍ، قبل اكتشافها أنّها حامل، فتسعى إلى إجهاضٍ تريده ردّاً غير مباشرٍ على خراب العلاقة بزوجها ومنزلها وبيئتها الضيّقة. وفي "شكوى"، تخرج هدى (فانيسا مغامس) من سجن المنزل الزوجيّ، حيث تتعرّض لاغتصابٍ من زوجٍ ترفضه، إلى سجنٍ غير ساعيةٍ إليه، إذْ ترى في اللجوء إلى الشرطة ملاذاً يُنقذها من عذابها، فيتبيّن لها أنْ سجن الشرطة أخفّ وطأة من تعذيبٍ يوميّ تخضع له في الاجتماع والحياة والعلاقات.

وإذْ تنتهي حكاية مريم (سكون) في لحظة انتظارها عودة تاجر غير شرعيّ إليها، حاملاً لها معه ما تحتاج إليه لتنفيذ الإجهاض؛ فإنْ تعبيراً واحداً أخيراً يُنهي "شكوى"، مع طلب هدى من الشرطيّ إيداعها الزنزانة، التي تراها أفضل من عودتها إلى زوجٍ سيعنّفها لخروجها على طاعته. وإذْ تبحث مريم عن مَخرجٍ للنفاذ من ورطة الأمومة، التي (الأمومة) تربطها أكثر فأكثر بعالمٍ تبغي النجاة منه لانعدام راحتها فيه؛ تلجأ هدى إلى سلطةٍ (الشرطة) يُفترض بها حماية الناس من مخاطر جمّة، فإذا بهذه السلطة عاجزة عن ذلك، إمّا بحجّة قوانين غير متلائمة مع حقوق المرأة، وإمّا بسبب ثقل "ذكورية" طاغية على مفاصل الحياة اليومية بشدّة.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

تصل هدى إلى مركز الشرطة، لتقديم شكوى (تقول أولاً إنّها تريد تقديم دعوى، ما يكشف جهلها بمسائل عدّة أخرى) ضد مغتصبٍ، يتبيّن سريعاً أنّه زوجها. هذا يحول دون تمكّن الشرطيّ (جان ـ بول الحاج) من قبول الشكوى، إذْ "لا وجود لاغتصابٍ في زواجٍ بعرف القانون"، والتفكير الذكوريّ يعتبر الرجل/ الزوج قيّماً على امرأته، ما يمنحه شرعية فعل ما يريده. يحاول الشرطيّ التودّد إليها فتصدّه، فيزداد توتّره، لكنّه متمسّك بقانونٍ لا بحسّ إنساني أخلاقي، ويُبلغها بضرورة التقدّم بشكوى "تعنيف أسري"، أو اللجوء إلى محامٍ، قبل اكتشافه بأنّها "مطلوبة للعدالة" بـ"جُرمٍ" تافهٍ (يُفضَّل عدم ذكره هنا)، فتتعقّد أمورها أكثر، خصوصاً أنّ علاقتها بأهلها مقطوعة، وزوجها قاسٍ، ولا صديقاتٍ لها، ولا تواصل مع قريباتٍ.

التكثيف الدرامي للحكاية (كتابة فرح شاعر) يختزل تفاصيل تتداخل فيما بينها، أبرزها أنّ هدى تبغي خلاصاً من عذابٍ يوميّ في غرفة النوم الزوجيّ. الانكشاف التدريجيّ للمشكلة يترافق وانكشاف معضلة أخلاقية، تتمثّل في انفضاض الشرطيّ عن فعلٍ يُفترض به أنْ يكون أخلاقياً بحتاً، فالتعامل وفق القوانين يحتاج، أحياناً، إلى حسّ إنسانيّ يختفي في بيئةٍ غير متسامحة مع المرأة.

لكنّ المشكلة الأساسية كامنةٌ في اختيار الممثلة، تماماً كالحاصل في "سكون". فالشخصية النسائية، بحسب الزيّ الذي ترتديه، يُحيل إلى بيئة لها لهجة ونبرة وكلام، لن ينتبه إليها مُشاهدٌ غير معنيّ مباشرة ببيئة كهذه. والممثلتان المختارتان لتأدية شخصيتي مريم وهدى غير متمكّنتين من الاحتفاظ بحدّ معقول من مفردات تلك البيئة، فيُصبح القول أو النبرة أو الحركة حائلاً دون تواصلٍ سلس مع مصداقية الشخصيتين، بالنسبة إلى مُشاهِدٍ يعرف البيئة وتفاصيلها.

أما أداء الثنائي فانيسا مغامس وجان ـ بول الحاج، ففيه شيءُ من افتعالٍ في كشف انفعالٍ أو تصرّف، ونبرة الشرطيّ (الحاج) متصنّعة في تناقضات حالاتٍ تتراوح بين المزاح مع زملاء والتعالي والصراخ مع "المرأة". بينما مغامس تُبالِغ أحياناً في تقديم خرابها وتعاستها وشقائها، ولكنتها غير مُساعِدة على منح هدى حاجاتها الاجتماعية والبشرية والحسّية.

رغم هذا، يعكس "شكوى"، كما "سكون"، بعض واقعٍ غير سليمٍ، في اجتماعٍ يُعاني أهوالاً شتّى في مسائل أساسية.

المساهمون