خيطٌ واحدٌ، يربط 4 قصصٍ تُروى بشكلٍ متتالٍ، يكمن في رفضٍ مبطّن لعقوبة الإعدام في إيران. "لا يوجود شرّ" (There Is No Evil)، جديد الإيرانيّ محمد رسول أف (مواليد شيراز، 1973)، يقول رفضاً كهذا بلغة مبسّطة، تكتفي بسرد حكاياتٍ عادية للغاية، قبل أنْ تكشف صرامةَ موقفٍ، وقسوةَ وقائع، وعنفَ عيشٍ يوميّ في اجتماعٍ وسلوكٍ وتربية وعلاقات. والحكايات، إذْ تروي فصولاً من سِيَر أفرادٍ يعانون ارتباكاتٍ إزاء وقائع وانفعالات، تُختَصر بسمتين لن تحولا دون تبيان سماتٍ أخرى عدّة: العائلة والحبّ. ومع العائلة والحبّ، تنكشف خفايا، وتنعكس هواجس، وتبرز أسرار مُعتّقة سنين طويلة.
جديد رسول أف، الفائز بـ"الدبّ الذهبي" في الدورة الـ70 (20 فبراير/شباط ـ 1 مارس/آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، يرتكز أساساً على مفهومٍ تبسيطيّ للسرد القصصي. الحكايات تُعاش يومياً، في عائلات وعلاقات. "أبطالها" أفرادٌ ينتمون، غالباً، إلى طبقة اجتماعية متوسّطة، وبعضهم يهرع إلى الريف البعيد والمنعزل لاحتماءٍ من شرّ مدينة، أو لركونٍ ذاتيّ إلى سكونٍ يُناقض غليان أفعالٍ مُرتَكَبة غصباً عن مرتكبيها. ضجيج المدينة حاضرٌ في أول حكاية (لها العنوان نفسه للفيلم)، والاختناق في مكانٍ واحدٍ سمة الحكاية الثانية (قالت: يُمكِنكَ القيام بالأمر)، بينما الريف ينقل المناخ من حيّزٍ مسكونٍ بالتوتر والزحام والحصار، رغم هدوء غريبٍ يتمتّع به حِشْمت (إحسان ميرهوسيني) ويتناقض مع قلقٍ يعانيه بويا (كاوه أنجار) في بداية خدمته العسكرية؛ إلى فضاء مفتوح على جمالِ طبيعةٍ، يتصادم فيها إحساسٌ بسلامٍ داخلي بتمزّقات تنهال عليه من خارجٍ، يستمرّ في إقلاق كلّ سكينةٍ ممكنة أو مطلوبة.
الطبيعة، في "لا يوجد شرّ" (الترجمة الحرفية للعنوان الفارسيّ، "شيطان وجود ندارد"، تقول: "لا يوجد شيطان"، علماً أنّ فضاء كلّ حكاية يُحيل إلى شرور كامنةٍ في تفاصيل العيش بجوانبها المختلفة)، تُقدَّم بنسختين: أولى تتّخذ من الشتاء والبرد والمطر والمياه ركائز ديكورٍ يعكس مناحٍ مختلفة في ذواتٍ معطوبة بسبب إعدام شابٍ، يُصيب أثرُه الجميع؛ وثانية مُقيمةٌ في أضواءٍ وألوانٍ فاتحة وصمتٍ يكاد يكون مُطبقاً، مع بعض عتمةٍ تنسحب من غرفةٍ أو ليلٍ إلى ذاتٍ، تخطو خطواتٍ أخيرة لها في حياةٍ معلّقة على سرٍّ دفينٍ.
بهذا، تؤدّي الطبيعة، في "لا يوجد شرّ" ـ المعروض في افتتاح الدورة الـ7 (20 ـ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020) لـ"أيام فلسطين السينمائية"، في رام الله ـ دوراً أساسياً في البناء السرديّ للحكاية، والبناء الدرامي للفيلم، والبناء النفسي لأفرادٍ مُصابين بأعطابٍ، يحاولون نفاذاً منها رغم صَدْماتٍ تأتيهم من خارج الطبيعة إلى أمكنتهم القلِقة، لكنْ القادرة على منحهم شيئاً من طمأنينةٍ، لنْ تمنع عنهم تداعيات شقاءٍ يُطاردهم إلى أسرّتهم ونفوسهم.
ففي القصّة الثالثة (عيد ميلاد)، يأتي جافاد/ جواد (محمد فاليزادِغان) إلى منزل نانا (مَهْتاب سرفاتي) لخطبتها يوم عيد ميلادها، فإذا بمجيئه يُصبح شرّاً يتغلغل في مسام حبيبةٍ، بعد اكتشافه أنّه، بصفته مجنّداً يؤدّي خدمته العسكرية، "قاتِلَ" أستاذٍ، له في نفوس أهل البلدة الريفية تلك مكانة طيّبة وحبٍّ كبير. وفي القصّة الرابعة (قَبّلني)، تصل داريا (باران رسول أف) إلى بلدة والدها المهاجر إلى ألمانيا منذ سنين، فتكتشف سرّاً يتعمّق في تاريخ عائلة يُراد له (السرّ) كشفاً قبيل رحيل والدها البيولوجي، فتنهار الدنيا عليها (داريا)، وتجد نفسها أمام معضلة أخلاقية، لن يُعرَف موقفها منها، فالخاتمة معلّقة ومفتوحة، كانفتاح الطبيعة أمام تساؤلات، معظم الإجابات عليها ملتبس وغير واضح وغير نهائيّ.
وإذْ يدخل الشرّ، في "عيد ميلاد"، من "بابٍ واسعٍ" (إنْ يصحّ التعبير)؛ يصعب عليه دخولاً كهذا في "قبّلني". داريا غير محمَّلة بالشرّ، فزيارتها تلك البلدة ناتجةٌ عن إلحاح والدها منصور (لن يظهر أبداً رغم اتصالاتٍ هاتفية متكرّرة مع ابنته وشقيقه، يُحجب صوته فيها)، بهدف معرفة سرٍّ ينقلب أمامها إلى شرّ مرتبط بفعلٍ جُرمي قديم، وبهروبٍ متنوّع الأشكال والمعاني. والشرّ، في القصّتين الأولى والثانية، متمثّلٌ بعقوبة إعدام، يُنفّذها حِشْمت بكبسة زرّ (تقضي وظيفته كَبْس زرٍّ من داخل غرفةٍ لتنفيذ الإعدام)، ويرفض بويا تنفيذها، فالإعدام يُقلقه أخلاقياً ونفسياً إلى حدّ الاختناق.
في "عيد ميلاد"، يستسلم جواد إلى حياةٍ مفروضةٍ عليه، فيرفض كلّ نشاطٍ سياسي، ويسعى إلى إنهاء خدمته العسكرية بأقلّ قدرٍ من الخسائر، خاضعاً لمشيئة من "يُقرّر القوانين" لامتلاكه "قوّة أكبر منّا" (كما يقول)، خوفاً من رفضٍ يجعل هؤلاء "يُدمّرون حياتنا". لكنّ جواد، لشدّة انصياعه الأعمى، يقتل ناشطاً سياسياً بحجّة تنفيذ إعدامٍ، بعد أنْ يُقال له بأنّ الناشط مجرمٌ يستحقّ الموت، تماماً كبعض زملاء بويا، فللبلد قوانين، وعلى أبناء البلد التزامها، وإلاّ فلتكن الهجرة مصيره، إنْ يتمكّن من ذلك (كما يقولون).
صمتُ حِشْمت عند تنفيذه الإعدام، في مشهدٍ صادم وجميل وقاسٍ (ثوانٍ عدّة فقط)، يأتي من حيويته وهدوئه ومحبّته لزوجته وابنتهما، ولوالدته المثقلة بتعب سنين وجسدٍ. التزامه شؤون عائلة يُحبّها ويُدلّلها لن يُقلِق راحته، رغم أنّ اللحظات، السابقة على توجّهه إلى عمله قبل بزوغ الفجر، تبدو مساحةً زمنية قصيرة تضعه أمام مرآة ذاته، من دون تحريضه على تمرّد أو انقلابٍ، فالتمرّد والانقلاب سمتان يتمتّع بهما بويا، القلِق إلى حدّ الاختناق، فهما خلاصه الوحيد من سجنٍ، يُشعِره بأنّه هو المسجون لا العامل فيه مجنّداً يُنفِّذ أوامر يرفضها لخوفه منها، أو لخوفه من أمورٍ عدّة أخرى.
حكايات محمد رسول أف، في "لا يوجد شرّ"، مُثيرة لقراءات وتحليلات وتنظيرات وتفسيرات، ومُثيرة أيضاً لمتعٍ سينمائية، تنبثق من تشكيلٍ سلس لحكاياتٍ غير مترابطة فيما بينها، ومن سردٍ بصريّ يكترث بتفاصيل جانبية كثيرة، رغم أنّها غير معنيّة بالنصّ الأساسيّ للحبكة، ومن تصوير (أشْكان أشْكاني) يكشف ـ لقطة تلو أخرى، وبإيقاع هادئ يتناقض وغليان ذاتٍ ولحظة، رغم أنّه يُشبه هدوء طبيعة قابلة للانفجار ـ أهوال عيشٍ وأحوالٍ وانفعالاتٍ، في بلدٍ غير قادرٍ على نجاةٍ أخيرة من موتٍ يُلاحقه.
ورغم أنّ لكلّ قصّة حيّزها الخاص (تتراوح مدّة كلّ واحدة منّها بين نصف ساعة و45 دقيقة، فالمدّة الكاملة للفيلم تبلغ 150 دقيقة مليئة بمُتعٍ هائلة رغم هول التفاصيل)، يتوافق التوليف (محمد رضا وميثم مويني) ومسارات ونفسيات وعلاقات وارتباكات ومناظر ومدى (واسع وضيّق)، مساهماً في تفكيكها وكشفها وإيصالها إلى ذروة أسئلتها المعلّقة، التي تقول رفضاً للإعدام، وإنْ بشكلٍ مبطّن، والإعدام حاصلٌ بحبلٍ يشنقٍ، أو برصاصة تقتل، أو بأكاذيب مخبّأة.