"سعادة": رؤية سينمائية حداثوية للتوحّش المنزلي

22 اغسطس 2022
"سعادة": حياة مثقلة بغضب وخيبات وآلام (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

بغضبٍ، أعلن المخرج الكازاخستاني أسكار أوزابايف (1983) موقفاً نقدياً من نظام اجتماعي مُحكَم، يُجيز تسلّطاً ذكورياً واحتقاراً للمرأة، حاول في فيلمين له؛ "كوكتيل للنجمة" (2010) و"الكِنّة هي أيضاً إنسان" (2017)، تمريره بسخرية وكوميديا مُغلّفتين بسوادٍ. بعدهما، بحث عن أنساق جديدة للتعبير عن رؤية متفحّصة للواقع، لا تتحرّج من فجاجة عرض المشهد الكازاخستاني بكلّ قسوته.

رؤية سينمائية حداثوية، يُقارب بها التوحّش المنزلي، المُغَلّف بنعومة كاذبة، في "سَعادة" (2022) ـ الفائز بجائزة مسابقة بانوراما (الجمهور) لأفضل فيلم، في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي" ـ ويستنطقها، ويُحيلها إلى ما هي عليه، كلمة جوفاء لا معنى لها، مثل حياة المرأة (لاورا ميرزاخمتوفا)، بائعة الأوهام، المتستّرة بها على همجية زوج (يربولات ألكوزا)، يستقوي عليها بقوّة نظامين فاسدين، اجتماعي وسياسي، يمتهنان كرامتها، ويُهمّشان وجودها.

خلوّ النصّ السينمائي من أسماء شخوصه وأبطاله، والاكتفاء فقط بذكر صفاتهم العائلية (زوج، زوجة، أخت، إلخ.)، يُراد به تعميماً، يُعارض تأطيراً لوجودهم في حدود خيال مجرّد، لا صلة له بالواقع. هذا خيار لا يخلو من مقاربة سينمائية فجّة للواقع، يُنصَح بالابتعاد عنها. بيد أنّ الفكرة تبدو مقبولة في السياق الدرامي الذي تأتي فيه، ولا تتعارض مع رغبة السيناريو (أوزابايف بالتعاون مع أسيم زابيشفا) في تقريب الوقائع ـ أرقام وإحصائيات رسمية ترد، مكتوبة، في نهاية مسار الفيلم، مُثَبِّتة الحاصل في البيوت الكازاخستانية ـ من حدود المتخيّل السينمائي، ما دام أنّه حريصٌ على تجسيدها بلغته الخاصة.

يظهر ذلك في المشهد الأول، مع اقتراب الكاميرا (تصوير بارع لماكس زادارنوفسكي) من باب منزل، يحمل رقم 35. فيه، تقف امرأة ثلاثينية أمام مرآة، بملابسها الداخلية، تعاين الكدمات الزرقاء على جسدها، وآثار ما تركه ضرب زوجها لها، قبل أيامٍ قليلة. اليوم، يشهد المنزل زواج ابنتها (ألماغول ساكنديك)، الحامل من شاب يتّصل بها في غرفتها، وينعتها بأسوأ النعوت. يهدّدها بالامتناع عن المجيء إلى الحفلة، لكنّه يُذعن أخيراً لطلب عمّتها (توليبيك كونباي)، خوفاً من خسارة ما وعدته به من امتيازاتٍ قادرة على تلبيتها، بحكم سكوتها ونفوذها السياسي.

الحركة في البيت، والخروج منه لتسجيل عقد الزواج رسمياً في بلدية العاصمة ألما آتا، يمهّدان لانتقالات درامية مشحونة بعنف ممزوج برياء، مُتأتٍ من وظيفة الزوجة، كمؤثّرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومُروِّجةً مستحضرَ تجميل، تعد النساء في الإعلان عنه، بسعادة آتية حال استخدامه. فيه سحرٌ يشفي الهموم، ويجعل الرجال يقبلون عليهنّ بكلّ الحبّ. مظهرها، بين المشهدين، مختلف. في الحفلة والبيت، حزينة ومهمَّشة، لا كلمة لها؛ وفي التسجيل، تظهر امرأةً تشعّ بهجةً، وتتزيّن بفستان برتقالي اللون برّاق، يقارب لون علبة مُستحضر التجميل.

 

 

امرأة بوجهين: افتراضي جميل ومُبهج، ومنزليّ تعيس وحزين، لا يكفّ الزوج عن ضربها فيه بوحشية. لا يُطيق كلمة طلاق تصدر منها. وفي لحظات انفعاله الشديد، لا يتوانى عن تهشيم جسدها. مشاهد العنف دموية، ومُبالَغٌ في وحشيتها، تُذكّر بسينما كوينتن تارانتينو، باختلاف توافقها مع الواقع، وبرغبة صانع الـ"سعادة" في إحداث صدمةٍ عند مُشاهدهِ.

إلى جانب كلّ مشهدٍ مشحون بانفعالات وتوتّرات عصبية، هناك جانب آخر يقبع في خلفيّته، وظيفته البحث عن جذور العنف ومنابع عاديته، في بلدٍ يُقرّ تفوّقاً للرجل، ويكتب قوانينه لمصلحته، ويُكلّف السلطات والسياسيين لضمان ديمومته. الأخت المتنفّذة توقف كلّ إجراءٍ من شأنه معاقبة أخيها، وبسطوتها على سياسيين ورجال شرطة مُفسدين، تمنع إحالة طلب طلاق زوجته منه إلى المحاكم.

هناك دائرة مغلقة، تجد المرأة نفسها فيها، لا تستطيع الخروج منها. دائرة تدخلها ابنتها بعد زواجها، لتعيد تجربتها نفسها، ولا يبقى أمامهما، في هذه الحالة، سوى الانتقام. الزوجة تعاشر موظّفاً يعمل معها، وتخطّط لقتل الزوج والتخلّص منه نهائياً. لن يتحقّق لها ذلك، فهناك نظام أقوى منها، يُجبرها ـ بعد تنفيذ محاولتها، وإصابة زوجها بسببها بعجز كامل ـ على رعايته، والبقاء معه في المنزل نفسه.

في النهاية، ترجع الكاميرا قليلاً إلى الوراء، لعرض مساحة أكبر للبيت رقم 35، ومنها يُمكن لعدساتها الوصول إلى فضاءات أبعد، تصل إلى تخوم عاصمة بلدٍ وفضائه، يُجيز معاشرة زوجية مجبولة بكراهية وبغضاء. الاشتغال السينمائي المقنع يرحل كلّ الخليط الذي فيه إلى الممثلين، للتعبير عنه. الزوجة بارعة، كالزوج، في أداء دورها. المُنجز برمّته يثير إعجاباً بسينما كازاخستانية، مرجعيّتها مدرسة روسية كلاسيكية، أولويتها التصوير المتقن، وبناء المشهد الواحد بتفاصيله الدقيقة، رغبةً منها في مقاربة الواقع، كما يقارب "سَعادة" واقعه بجرأة لافتة للانتباه.

المساهمون