تحوّلت سورية، وما تبقى فيها من عمران إلى مساحة "سياحية" تجذب الفضوليين والمحترفين على حد سواء، فالخراب والدمار في مدنها مغناطيس لعدسات الكاميرات باختلاف أنواعها. شركات الإنتاج المحلية تصور أفلاما دعائية، والشركات الدولية تستفيد من الخراب كاستديو لمكان مدمر رخيص التكلفة، وهناك أيضاً رحّالة اليوتوب والمغامرون الأفراد الذين يطلون علينا كلّ فترة مدهوشين من الدمار في سورية، وفي ذات الوقت سعداء ومشبعين بالأمل، كون الناس في سورية ما زالوا كرماء، يوزعون الفستق على المارّة، ويبتسمون أمام الكاميرات.
آخر هؤلاء المستكشفين الأجانب، السويدي توماس براغ، صانع المحتوى على قناة Yes Theory على يوتيوب، والذي أنجز مؤخراً 45 دقيقة، بعنوان "7 أيام في سورية"، تحرك خلالها بين دمشق، حمص، حلب، تدمر، ودرعا، مدهوشاً من الدمار، ومن كرم السوريين وابتسامتهم برغم الحرب. فتوماس يذوب أمام أطايب الطعام الدمشقي والحلبيّ. وفي ذات الوقت يقف واجماً متأملاً الأطلال في حمص، غارقاً ضمن تساؤلات حول الإنسانية، وغياب العدل في هذا العالم، لذا قرر بعد أن شاهد كل الخراب وفكّر به، أن يبقى متفائلاً ويعود بجواز سفره السويدي إلى بلاده، مؤمناً بأن الأمل ما زال موجوداً.
لا تختلف مغامرة السويدي هذا عمن سبقه، يقطع الحدود السورية من لبنان والرعشة تعتليه، فهالة الرعب المحيطة بسورية لا يمكن تجاوزها بسهولة. ثم يكتشف أنَّ الخوف ليس إلا دعاية إعلامية. صحيح أن هناك "20 حاجزاً" كي يصل إلى دمشق حسب تعبيره، لكن لا مشكلة، الدليل المحلي يشرح له الوضع، واللافت في حالة توماس أن هناك 3 أدلاء محليين يرافقونه بين المدن السورية، يقفون معه مذهولين أمام تدمر التي يدخل فيها (بقدرة قادرٍ) إلى مقابر رومانية تحت الأرض نسفتها داعش، ويمسك عظامًا تعود لآلاف السنين، ليقف في النهاية في العراء حزيناً على ضياع التاريخ المرمي محطماً في منتصف الصحراء. لكن ذلك لا يهم، لا بد من إكمال المغامرة، تلك التي تمتد لسبعة أيام، دون أن نرى جندياً واحداً أو مظهراً عسكرياً واحداً، فالحرب انتهت كما يبدو!
لا يمكن لنا سوى أن نكتب بسخرية حين نتحدث عن هذا المغامر الذي يريد اكتشاف سورية، متجاهلاً أن بلده نفسه، الذي يحمل جنسيته، أي السويد، استقبل آلاف اللاجئين السوريين، ويحاول الآن ترحيلهم وإعادتهم إلى بلادهم التي "انتهت فيها الحرب"، لكن هذا لا يهم، هناك محتوى لا بد من إنتاجه، لجذب الجمهور والمتابعين، وزيادة عدد المشتركين بالقناة.
ما هي المخاطر التي يكشفها هذا النوع من المغامرات؟ يمكن القول إنها لن تقع على جسد الأجنبي، والذي كما رأيناه ومن قبله يدخلون ويخرجون من سورية لصناعة محتواهم دون أن تمس فيهم شعرة، كونهم مراقبين، أو بصورة أدق، هم بين أياد موثوقة، لكن المخاطر ستقع على السوريين في الخارج، اللاجئين والمهجرين الممنوعين من دخول البلاد. فهذا الشكل من المحتوى الفردي يتلقفه اليمين المتطرف في أوروبا بوصفه دليلاً أو علامة على أن الحياة في سورية أصبحت معقولة. بصورة أدق، الحرب توقفت، ولا داع لبقاء اللاجئين في القارة العجوز، لا بد لهم من العودة لإعادة إعمار بلادهم، والتصالح مع الديكتاتور الذي يرحب بهم.
ما يثير الغيظ، هو أن هذه الرحلة الاستكشافية ليست إلا امتدادًا لتراث كولونيالي قديم، حيث يهبط الرجل الأبيض أرضاً غريبة، خطرة، تحيط بها الإشاعات، ثم يكتشف حقيقة أهلها، و"إنسانيتهم" ليبدأ بعدها باكتشاف ذاته، فهو الأهم، لا البلد المخرب. وهذا بالضبط ما يحدث مع السويدي في النهاية، إذ يطرح أسئلة على نفسه: "لم ولدت أنا في مكان آمن، وهناك من ولد في ذات اليوم في بلد محطم؟". ويكمل بعدها في مونولج ذاتي متحدثاً عن عدم العدالة في العالم، ونسبية مفهوم الإنسانية، لكنه بعد نهاية زيارته، ما زال يؤمن بأن هناك أملاً، و أن شعب سورية لا بد أن ينجو، أما هو فقد تعلم أن الحياة ممكنة في أي مكان لطالما هناك إرادة.
نسخر ونتهكم من هكذا "مغامرات"، نتوجه لها بالانتقاد المحق والمجحف أحياناً، نستخدم مفاهيم ونعتمد على العواطف، لكن لا يمكن إنكار أن المُنتج مصنوع بأسلوب جذاب، آلاف المشاهدات والتعليقات المادحة والحزينة، فأثر الخراب ونجاة من تبقى في سورية لا يحرك العواطف ويجذب الجمهور، وهذا بالضبط ما يثير الحنق، كيف تمكن منافسة هكذا محتوى؟ أو توجيه اللوم له؟ هل نتبنى مفاهيم الصوابية السياسية ونطالب بإلغائه؟ أو نسلم بـ"حرية التعبير" التي تضمنها منصات التواصل الاجتماعي وقدرتها على إنتاج هكذا أشكال من المغامرات؟