خمسة عشر عاماً، والأسير حسام شاهين (48 عاماً) من بلدة السواحرة الشرقية شرق القدس المحتلة وسط الضفة الغربية، وهو يكتب "البيت الورقي الحساس"، كما وصفه في مقدمة كتابه "رسائل إلى قمر/ شظايا سيرة" (كتاب سيرة ذاتية) لقمر، ابنة صديقيه عماد الزهيري وشيرين عنبتاوي، الصغيرة التي تركها أوائل العام 2004، وهي لا تتجاوز العام ونصف العام، أما الآن فصارت صبية في الثامنة عشرة من العمر، لا تذكر من هو الأسير الذي كان يلاعبها، ولا الكاتب الذي من فَرط حُبه لها؛ بعث إليها رسائل مضمومة بحنين معتق بين دفتي كتاب.
يقع الكتاب الذي صدر مؤخراً، في 221 صفحة، ويضم قرابة 57 نصاً أدبياً، وقد حاول الكاتب الأسير حسام شاهين، طيلة السنوات الكثيرة قبل النشر، مواراتها بعيداً عن يد السجان، خوفًا من المصادرة والتلاشي.
تقول شقيقة الأسير حسام، نسيم شاهين لـ"العربي الجديد": "يحكي الكتاب الكثير من التفاصيل عن حياة السجون، لا يعرفها إلا الأسير نفسه، وعن المرأة الفلسطينية، والأممية التي تتضامن مع فلسطين، ويحمل كل نص حكمة عن الحياة. ويخاطب حسام في كتابه قمر التي تمثل الجيل الفلسطيني الشاب، حول طريقة التعاطي مع كل أزمة حياتية، دون أن يضع الفرد قيوداً على عقله، الأمر الذي يمنعه من الاستمرار والإنجاز، ويظهر أيضاً في الكتاب حديثه عن البعد الوطني".
في الكتاب، ينتقل الأسير شاهين بجرأة مُفاجِئة إلى الحديث عن الحياة التي لم يعشها خارج السجن، بل يقدم لقمر وللقارئ حكمته المُغلفة بأسلوب لغوي وأدبي رشيق، على عكس المتوقع بأن يكون الكتاب مثقلاً بقهر السجون. هكذا يتخلى الكاتب المقهور في السجن، والمحكوم بالبقاء فيه لعشر سنوات أُخرى من أصل حكم سنونه 28 سنة، عن دفع القارئ للتألم معه كأسير، وسحبه عوضاً عن ذلك بخفة أدبية نحو التأمل في الحياة التي يتعارك معها الناس خارج الجدران، مع الملاحظة أنه لم يتجاهل معاناة الأسرى، لكنه يوضحها بطريقة أخرى، لا تأكيد فيها على الانهيار السريع للقارئ في البكاء.
يقول حسام شاهين في كتابه "رسائل إلى قمر" مخاطباً قمر: "من الصعب أن تمنحك الحياة كل ما تريدين، ولكن من الممكن أن تسعي إلى تحقيق ما تريدين، أما المستحيل، فهو أن تلغي إمكانية السعي لصالح صعوبة المنح، وعندما تصطدمين بمن يهرب من المواجهة بذريعة محافظته على ما تبقى من علاقة بعد أن توضحي نفسك إليه، كوني على ثقة بأنك تقفين أمام رغبة يتغلغل فيها كبرياء زائف".
"أنا لا يأسرني النص الذي يكتبه حسام، أنا أسيرة مع حسام. وعندما يصلني ما يكتبه حسام بخط يده، وهو الذي أصدر من قبل رواية (زغرودة الفنجان) وأنهى مسودة كتابه (أدوات) لكن الاحتلال صادره، أُقبّل الورق والحروف وأشم رائحتها، هي رائحة أخي. أعيد قراءة النص عشرات المرات، أتوقف.. أبكي، وأتساءل عن كل هذا الألم الذي يعيشه حسام، ثم أكون حريصة في قراءة النصوص وطباعتها، وأحولها إلى الكاتب المعروف، محمود شقير، لتدقيقها ومراجعتها"، تقول شقيقة الأسير نسيم شاهين التي حاولت طيلة اللقاء رد دموعها دون أن تفلح.
يعرض شاهين حياة ومجتمع الأسرى داخل السجون على حقيقتها دون أن يضطر لتجميلها
يعرض شاهين حياة ومجتمع الأسرى داخل السجون على حقيقتها دون أن يضطر لتجميلها، ويذكر في أحد المواقف كيف حدثت إشكالية بينه وبين بعض الأسرى، ومحاولة أسير تعزيز فكرة تفاوت المستوى الثقافي بين الأسرى.
لكن المعاناة الأساسية للأسرى ليست حواراتهم، بل سياسة الاحتلال في قتل راحتهم، في "البرش" وهو سرير الأسير، وفي "الفورة- التنزه في ساحة السجن"، التي يسمح بها ساعتين فقط خلال النهار، وفي "معبار الرملة" المكان الذي يُجمع فيه الأسرى الفلسطينيون قبل التوجه للمحاكم، وفي استذكار أهله وأحبابه، عبر تقنية ابتكرها فقط الأسير الفلسطيني "الحب عن طريق الأنف".
كلما اشتاق الأسير عبد الرحمن شهاب إلى أمه، أخرج البنطال الذي أحضرته هدية له في إحدى الزيارات، وكي تذكره بها أغرقت البنطال بعطرها، وهكذا رفض هذا الأسير لبس البنطال لمدة تسع سنوات، على أن يخرجه ويشتم فيه رائحة والدته كلما لسع الحنين قلبه. تقول نسيم شاهين: "في كتاب (رسائل إلى قمر) حادثة عبد الرحمن و(الحب عن طريق الأنف) لدى الأسرى، لكن أحد الجواسيس في السجن اكتشف أمر البنطال، وصادرت إدارة السجون البنطال، بعد أن كُشف تواصله مع عائلته عن طريق حاسة الشم". إذْ يرد في الكتاب: "بالنسبة لعبد الرحمن شهاب كان كلما أراد أن يقبل جبين أمه أو أن يضمها إلى صدره، كان يمارس هذه المحبة عبر أنفه، يُخرج البنطال ويبدأ باستنشاق رائحته". كانت حادثة عبد الرحمن كفيلة بأن تحرك لوعة اشتياق حسام شاهين إلى أمه هو الآخر، وهو الذي فقد والده قبل أربع سنوات، حيث يقول في كتابه: "لم أدرك جيداً معنى الحنين، إلا بعد أن تعرفت على حنين عبد الرحمن لرائحة أمه، وأنا الآن أحنّ إلى كل أمي".
ويوضح الكاتب محمود شقير، أن معاناة الأسير داخل السجن، وقهر السجان، وتبادل الخبرات والتجارب بين الأسرى أنفسهم؛ وزيارات الأهل، ومتابعة نضالات الشعب وأحوال الناس في الخارج؛ تشكل كلها أيضاً مادة للكتابة، رغم رتابة الحياة داخل السجن وتشابه الأيام، الأمر الذي من شأنه قتل أي حافزٍ للإبداع، لكن ذلك يدفع بعض المبدعين من الأسرى لجعل الإبداع الكتابي نفسه عنصراً من عناصر تحدي السجن والسجان.