عام 1989، صدر للناقد الأميركي فريدريك جيمسون، كتاب "ما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة". واحدة من أبرز النقاط الواردة في هذا الكتاب، وأكثر الأفكار اقتباساً، هي توصيفه للمنتجات الثقافية، حينها، بوصفها أسيرة النوستالجيا؛ هي تعيد استهلاك الماضي والمألوف وتقديمه، ولا تطرح أسئلة نقدية، بل تراهن على متخيلنا عما نعرفه، وتحاول الكسب منه.
الكلام النظري المختصر السابق، يتجلى في المسيرة المهنية للمخرج الأميركي جيه. جيه. أبرامز، الذي بنى شهرته على النوستالجيا، في إخراجه الأجزاء الجديدة من "المهمة المستحيلة" و"ستار تريك" و"كلوفيلد بارادوكس". وينسحب الأمر على الاستوديوهات أيضاً، التي استغلت موجة التنوع الجندري، لتعيد إنتاج "أوشينز 7"، و"طاردو الأشباح".
هذه الظاهرة تجلت بأوجها في الجزء الرابع من سلسلة "ماتريكس"، الذي يحمل عنواناً فرعياً: "الانبعاث". وفي هذا الجزء، تسخر المخرجة لانا واتشاوسكي من النوستالجيا، وضغط شركة "وارنر براذرز" عليها لإنتاج جزء جديد بعد 18 عشر عاماً من إصدار الجزء الثالث، ما جعل النتيجة تبدو وكأنّها تلبية لكل "ما يطلبه الجمهور" من مشاهد؛ فهناك كل القتال والحركات البهلوانيّة، كل نظريات التفسير التي تناولت الماتريكس، وكل التساؤلات التي طرحت على مدى سنوات موجودة في الفيلم الجديد.
لا نحاول أن نقدم قراءة نقدية لـ "ذا ماتريكس"، لكن الاختلاف بينه وبين الأفلام النوستالجية الأخرى، يكمن في أنه يعي وقوعه في هذه المشكلة ويسخر منها، موظفاً كل أفلام السلسلة السابقة، مقتبساً من نفسه ومتهكماً عليها، وكأنه يسخر من الماضي، والأهم، يستهدف شبق الجماهير إلى ما هو ماض وجميل، ورغبتهم بتكراره للأبد.
هذا الأسلوب في الإنتاج والعمل يدفعنا، إلى طرح سؤال "الجديد": ما هو الجديد الذي يمكن أن نراه أو نبحث عنه؟ خصوصاً أن الحنين إلى الماضي، وزخرفته وفق مخيلة معاصرة يعمينا عما يحصل حالياً. "الجديد" عادة وعلى اختلاف نوعيته، يدفعنا، إلى إعادة النظر في البنية التي أنتجته والشروط الذي ظهر ضمنها، وهذا ما لا نراه في الأفلام النوستالجية التقليدية التي تحولت بسببها استديوهات الإنتاج إلى ما يشبه مطاعم الوجبات السريعة، التي تعدك بذات الوجبة، وذات الطعم وذات الثمن، في كل مرة تدخلها كي تأكل، وهذا بالضبط المنطق الحالي في الأفلام تلبي رغبتنا بأن "لا نعرف"، بل أن "نتذكر" كي تربح بناء على التاريخ السابق، وتقدم منتجات قابلة للتوقع، لا جديد فيها، مجرد تكرار مع تعديلات طفيفة، في رهان على المألوف والمتعارف عليه، والأهم أنه ذو نتائج مضمونة.
يمكن فهم هذه المقاربة من نقيضها، عبر الانتقادات التي طاولت فيلم "لا تنظر إلى الأعلى" الذي بثته نتفليكس أخيراً، إذ رآه البعض مُخيباً للتوقعات، فالعالم ينتهي في الفيلم، والبشرية تفنى، في مقارنة مع فيلم Doctor Strange love المنتج عام 1964، للمخرج ستانلي كوبريك. عمل ذو نهاية سينيكة مشابهة لما شاهدناه على نتفليكس، حيث الجميع يموت، وكل المحاولات الفردية والسعي لإنقاذ البشرية من قبل فئة من العلماء تفشل، وكأننا محكومون بالموت مسبقاً. وهذا ما لا نراه في الأفلام "التقليدية" النوستالجيّة، تلك التي لا ينتهي فيها العالم، وينتصر الخير على الشر، ويفوز البطل بقلب البطلة، وتعود الحياة إلى طبيعتها، التوقعات التي لم تتحقق في فيلم "لا تنظر إلى الأعلى"، وكأنه لا يجوز أن نموت جميعاً وأن يفشل البطل، فلا حنين في هذا الفيلم، بل كارثة ننكرها ثم تصيبنا، من دون بطل قادر على الوقوف بوجهها.
هذه العلاقة بين السينيكة والنوستالجيا، تقسم الجمهور كما تقسم العالم، فهناك أسرى الماضي الذين يرون أن ما نختبره الآن لا بد له من "منقذ" قوي رأسمالي، كشركة "فايزر"، بالتالي لا بد من "إعادة التاريخ" واستهلاكه علّنا نجد فيه الحل. وهناك الفئة الساخرة، تلك التي لا يهمها ما يحصل، المتيقنة من الفناء، تلك التي تؤجل موتها يوماً بعد يوم، فحتى "نيو" نفسه في "ذا ماتريكس"، لم يعد قادراً على الطيران، لا بد من شريك له، كي يحلق بعيداً عن هذا العالم الذي يتداعى.