"حب وموت وروبوتات"... تمارين على مستقبلٍ ما

08 يونيو 2021
من حلقة الروبوتات الثلاثة (نتفليكس)
+ الخط -

وفقاً لمقولة شائعة، فإننا نعيش اليوم في الفترة الفاصلة بين عصرين، أولهما هو الزائل الذي اكتشفنا خلاله كوكب الأرض بالطول والعرض، وثانيهما هو ذاك الذي لم يبدأ بعد، وخلاله سنكتشف الفضاء، وبهذا يبقى لدينا الإبحار في الإنترنت.

يمكننا، بثقة، أن نضيف إلى ذلك، محاولتي إعادة اكتشاف ذاك الماضي أو إعادة كتابته، والتنبؤ بما سيبدو عليه هذا المستقبل، بسفنه الفضائية وروبوتاته التي يوصلها ذكاؤها الصناعي إلى الخلاصات ذاتها حولنا كعرقٍ بشري. ولهذا الغرض، نخصص عدداً لا يحصى اليوم من الروايات والقصص والأفلام والمسلسلات، وغيرها. ضمن هذه البيئة المتقلبة، التي تثير شهية أي شركة منتجة، حاولت نتفليكس تقديم عملٍ يرتفع قليلاً عن كم الأعمال التي لا تحصى، وبعضها لا يُذكر، ضمن هذا النوع، ويقترب أكثر من كلاسيكياته. عنوانه Love, Death & Robots (موت وحب وروبوتات). ثلاثة عناصر تبدو ضرورية لصناعة الرائعة القادمة، ومدفوعة بالطبع بالعناصر الضرورية الأخرى التي لا يكمن زجها في عنوان، كإنتاج ديفيد فينشر وتيم ميلر للعمل.

وإن كان التاريخ، هذه المرة، قد علّمنا شيئاً، فهو أن طابع العناصر متفرقةً قد يختلف عن طابع الكل الذي تنتجه، خصوصاً حين يكون هذا الكل سلسلة أنطولوجية يجب أحياناً النظر إليها كأجزاء متفرقة.

عين على المستقبل، عين على الحاضر

تبدو النقطة الأفضل لفهم Love, Death and Robots متعلقة ببناء العمل. حتى اليوم، يمتد العمل على موسمين، صدر ثانيهما حديثاً، مع حديث عن موسم ثالث. وفي الحقيقة، فإن ثمة القليل من الأشياء التي تربط هذين الموسمين بعضهما ببعض، أو تربط حلقات الموسم الواحد بعضها ببعض. فمع كل حلقة، ثمة تجربة مختلفة، وأسلوب منفرد بالتحريك والرسم وشكل مختلف لبناء القصة (أو غيابه). بالنسبة للبعض، يبدو هذا الشكل من القص بقصره وعدم ترابط مكوناته هو الأمثل لحالة الفرجة اليوم، بفترات الانتباه القصيرة ووفرة المواد المتاحة للمشاهدة، وحضور الهاتف الذكي كوسيط للمشاهدة. وبذلك، فإن العمل الذي يبدو مضمونه أبعد ما يكون عن الحاضر، يحاول الالتصاق به من حيث الشكل وطريقة التقديم.

على الجهة الأخرى، يعيق هذا الشكل أي محاولة للتصدي للعمل بالطرق المعروفة، ولا عجب حينها أن تركّز المراجعات النقدية للسلسلة على تقييم حلقات كل موسم من الأسوأ للأفضل، أو العكس، أو أي ترتيب آخر. ففي الموسم الأول، الممتد على 18 حلقة، بأطوال تراوح بين خمس دقائق وأقل من عشرين دقيقة، سيمر المشاهد على حلقاتٍ مثيرة كـ"الروبوتات الثلاثة"، التي تجري بعد فناء البشرية ومحاولة ثلاثة روبوتات فهم ما جرى، أو "حين تسلّم اللبن القيادة"، التي ينجح خلالها نوعٌ ذكي من اللبن بحل مشاكل الأرض، ومن ثم يهجرها، و"أزرق زيما"، التي تطرح في الآن ذاته تساؤلات عن العمل الفني والوعي والزمن، وربما تكون أكثر حلقات الموسم الأول قوةً.

لا عجب حينها أن تركّز المراجعات النقدية للسلسلة على تقييم حلقات كل موسم من الأسوأ للأفضل

تقدم الحلقات الباقية مواد قد تكون أقل فاعلية. وحقيقةً، فإن بعضها يبدو أقرب إلى الفرضيات وتمارين الكتابة من حيث البناء، أو تصلح لأن تكون أجزاءً صغيرة ضمن عملٍ موحدٍ أكبر، أكثر من كونها موادّ كاملة، تعمل وفق حبكات بسيطة أو مكشوفة، في ما يبدو أنه خيار قصدي لهذه السلسلة. بينما تفرض المفارقة، أو الإبهار البصري، قوتها في حلقاتٍ كـ"عصر الجليد" و"ليلة السمك".

لكن ما المانع؟ إن كان هذا الشكل هو الأنجح، فهذا الشكل هو ما سنحصل عليه في نهاية المطاف، وسيذكر المستقبل Love Death and Robots بوصفه ممهّد الطريق للأعمال التي تليه، والذي ينال الضرب بالعصي، كما حدث مع كل الأعمال الممهِدة تاريخياً، قبل أن تنال الأعمال التي تليها الثناء والمديح.

إبهار أقل

لا يعني ما سبق بأي حال أن التركيبة اليوم حققت نجاحاً باهراً، وربما يدلنا التغير في الموسم الثاني على ذلك. فعلى خلاف سابقه، يقدم الموسم الثاني حلقاتٍ أقل بشكل ملحوظ، حيث يمتد على ثماني حلقات وحسب، ويغلب بناء القصة (الأكثر إحكاماً نسبياً) على الإبهار عبر رسوم و"جماليات" الموسم الأول، وتصبح الحلقات بذلك - وإن كان التفاوت لا يزال حاضراً - أشد تماسكاً من حيث البناء.

تقدم حلقة كـ"فرقة الإبادة" مستوىً من القسوة أثناء عرض مستقبلٍ متخيل يضحي فيه البشر بالقدرة على الإنجاب طمعاً بالخلود، وتنجح ضمن شرط العمل بالبروز ضمن الموسم الثاني، بينما تختار حلقة "العملاق الغارق" إنساناً أكبر حجماً لتتحدث عن أقرانه الأصغر حجماً وعلاقتهم بالزمن والدهشة بإيقاعٍ هادئ لم تعتد السلسلة عليه.

قد تكون هاتان الحلقتان الأبرز ضمن الموسم الثاني، إلا أن الدعابة تحضر، أيضاً، كما في الحلقة الأولى من الجزء الثاني أو حلقة عيد الميلاد. وباستثناء حلقة "الجليد"، فإن أسلوب الرسوم حتى يتشابه بين حلقات ثاني المواسم. لهذه الأسباب، شكّل الجزء الثاني للعديدين سقطة عما أحبوه في الموسم الأول، لكنه في الحقيقة يقدّم شيئاً ويضحي بآخر، ويبدو الحكم على أي من الموسمين أفضل، متعلقاً بذائقة شخصية وتفضيل عناصر على أخرى. وفي معرض الحديث عن العناصر، لا يمكننا تجاهل عنصرين أساسيين؛ "الحب والموت". فإذا ما كان ثالثهما "الروبوتات" أسهل ملاحظةً وأقل إثارةً للجدل، فإن العنصرين الآخرين ليسا كذلك.

فحين نتحدث عن الحب، أو الموت، ليس ثمة شكل معين أو وحيد لافتراض تجسيدهما، بل عدة طرق تختلف بقوة حضور عنصر الصدمة. قد يمر الموت بهدوء، أو خارج الكادر أو الخشبة (كما درجت العادة في المسرح الإغريقي)، وقد يحضر أمامنا بأكثر طرق تصويره دمويةً ومباشرةً، ولا ضير في أي شكلٍ لذلك حقيقةً. ينطبق الأمر ذاته على الحب، أياً كان تعريفه.

حين نتحدث عن الحب، أو الموت، ليس ثمة شكل معين أو وحيد لافتراض تجسيدهما، بل عدة طرق تختلف بقوة حضور عنصر الصدمة

وفي Love, Death and Robots بالتحديد، فإن تصوير هذه المفاهيم لا يبذل جهداً في أن يمر خفيةً. ونتيجة لذلك، فإن السلسلة تصبح معروفة لدى الجميع بكونها عنيفةً ومليئة بالمشاهد الجنسية. مثلما أسلفنا، لا ضير في ذلك ما دام المشاهد لا ينزعج من هذا النوع من التصوير. بعد ذلك، وحالما نعتبر أن هذه العناصر، كغيرها، يجب أن تُعامَل بالطبيعة ذاتها في ما يتعلق بقدرتها على تبرير وجودها ودورها في صناعة العمل، يمكننا أن نتفحصها بعيداً عن الفزع، أو اعتبارها تابوهات لا يجوز أن نقترب منها. وهنا تكمن بعض المشاكل

فبالنسبة لعملٍ طموح كهذا، تبدو العديد من هذه التصورات بالية وقديمة اليوم، وقلّما تقدم شيئاً يتجاوز عامل الصدمة أحياناً، رغم أن هذا النوع من المحتوى - أياً كان ما يتعرض له من انتقادات أحياناً - قادر على الوصول إلى ما هو أبعد من مجرد الصدمة، وهذه فرصة يبدو أن العمل في موسمه الأول على الأقل لم يحسن استغلالها.

الدراما والمستقبل ومستقبل الدراما

بكل حال، ليست الأعمال الدرامية أفضل مصدرٍ للتنبؤ بالمستقبل بالضرورة، لا بأس بذلك. إلا أن أعمالاً كـLove, Death and Robots مهمة للتنبؤ بمستقبل الأعمال الدرامية بحد ذاتها. وكما تبدو الصورة اليوم، فإننا مقبلون على إمكانيات هائلة من حيث ما يمكن لهذه الصناعة أن تتصوره وتقدمه، أثناء عملها "عن بعد"، من دون وجود ممثلين في موقع تصوير أثناء جائحة تعيق ذلك، ومن حيث قدرتها على جمع أفضل المواهب والصنّاع من شتى أصقاع العالم، ضمن فريقٍ افتراضي إن استدعت الحاجة ذلك، وإن كان ثمة ما سيعكر صفو هذه الصورة البراقة للمستقبل.

من الخطأ الاعتقاد بأن التقدم التقني لن يتفاعل مع عنصر القص وبناء الحكايات، أو أن العنصرين لن يؤثر بعضهما ببعض. وفي الواقع، فإن خلاصة كهذه يعرفها هواة ألعاب الفيديو سابقاً؛ مزيد من الجودة البصرية لا يُعطي بالضرورة قصة مقنعة أو تجربة ممتعة. وبذلك، فإن الطريقة التي سنتذكر بها Love, Death and Robots في المستقبل ستكون مرهونة بشكل "التطور". ستكون السلسلة - وغيرها من الأعمال التي ستلعب الدور ذاته - تجربة لا بأس بها على طريق تطوير صناعةٍ جميلة بصرياً بما يسمح لها بتحمل قصة أعقد، أو نذيراً ببداية انهيارٍ لصالح الأعمال التي يمكنك متابعتها وتخطي بعض حلقاتها أثناء تصفح الإنترنت أو الدردشة مع صديقٍ، من دون أن يفوتك شيء بكل حال.

المساهمون