"جرادة مالحة"... ذكريات امرأة تمضي يومها في شرب الكحول

08 أكتوبر 2022
قصة لا جدّة فيها ولا روح لها (جرادة مالحة/فيسبوك)
+ الخط -

بعد مسار طويل خاضَه كممثّل، ثمّ كمخرج مسرحي وتلفزيوني، ولج إدريس الروخ (54 عاماً) مجال الإخراج السينمائي، مُنجزاً ثلاثة أفلام قصيرة، لم تُخلّف أثراً عميقاً في ذاكرة المتابعين، قبل خوضه تجربة الفيلم الطويل الأول، بإنجازه "جرادة مالحة"، المعروض حالياً في صالات السينما في المغرب.

يروي الفيلم قصة رانيا (منى رميقي) التي تعاني مشاكل نفسية واضطرابات في الذاكرة. تستيقظ من نومها، فتجد نفسها رهينة حياة رتيبة، ومحيطٍ يبعث على الريبة. تمضي يومها في احتساء الخمر. تستولي عليها شكوكٌ ورؤى خاطفة تعبر ذاكرتها. يعطي الحكي، في البداية، إشارات أنّها ربما تكون مُصابة بجنون الارتياب (بارانويا)، قبل أنْ تشير تصرّفات الخادمة (فاطمة الزهراء بناصر) والحارس (عبد الرحيم المنياري) إلى فرضية تلاعب جهةٍ ما بحياتها، خدمةً لمخطّطٍ مُعيّن، يظلّ غامضاً في البداية. يفضي خصامٌ بينها وبين زوجها (المفترض)، بسبب غيابه المستمر عن البيت، واحتمال خيانته لها، إلى سقوطه من أعلى السلّم، وموته، فتشرع خيوط الحبكة في التكشّف تدريجياً.

يُضاف "جرادة مالحة" إلى سلسلة أفلام باهتة، آخرها "امرأة في الظلّ" (2020) لجمال بلمجدوب، رغم طموح انخراطها في نوع صعبٍ، أي الدراما السيكولوجية و"ثريلر" الغموض. أسباب البهتان عديدة، أهمّها أنّ النصّ لا يُحلّق عالياً، وتعتريه نواقص وثغرات يسقط بموجبها في الاستسهال المستخفّ بالتفاصيل تارةً (تكوّن بركة من الدماء تحت رأس الزوج، بعد سقوطه من أعلى السلّم، بدل أنْ يقضي بارتجاج داخلي، كما هو معروف في هذه الحالات)، وفي الالتباس تارة أخرى (كيف يجرؤ منتمٍ إلى بنية تراتبية مُعيّنة، فجأة، على تحدّي رئيسه، وكيل التهديدات له؟)، علاوةً على إخفاق الإخراج في بثّ أجواء القلق والغموض الخلاّق، الضرورية لدمج المُشاهد وحثّ تعاطفه مع مسار البطلة، مُكتفياً بواجهةٍ برّاقة ومدّعيةٍ، قوامها تناولٌ مُتكلّف، لا إبداع في تفاصيله الدراماتورجية والجمالية.

لعلّ ذلك يُعزى، أولاً، إلى أنّ تعقيد الحبكة يرتكز على تطوّرات متوقّعة إلى حدٍّ كبير، وفراغٍ فكري مهول، بدءاً من الحوار الذي يلوك لازمة "ضغوط جهةٍ ما تُصرّ على إتمام المهمّة"، مروراً بتصوّرٍ درامي يعوزه الذكاء، ويضع "بنية تحكّمٍ" ـ يُفترض بها أنْ تكون سرّية ـ تحت أنف البطلة، فيكفي أنْ تدفع جزّازة عشبٍ، تقبع في مدخل الطابق السفلي، لتنفتح أمامها أبواب "المؤامرة الخفية"، وصولاً إلى الحجة الأساسية للحكي، المبنية على مفهوم التحكّم في شخصٍ ما، انطلاقاً من التلاعب بذكرياته المُفتقِرة إلى المصداقية، خاصة أنّ مشهد شرح الطبيب لتفاصيلها، يبدو كأنّه استظهار لمحتوياتٍ تمّ استقاؤها للتّو من "ويكيبيديا"، عن موضوع الذاكرة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

هناك خلطٌ فادحٌ بين التلاعب بذاكرة البطلة، والتحكّم في تصرّفاتها واختياراتها في الحياة، لا سيما أنّنا لا نعرف أصلاً أيّ شيءٍ عن حياتها قبل بدء "العملية"، ودواعي اختيارها. ما يزيد الطّين بلّة، أنّ برنامجها اليومي المُتكرّر، كما قُدّم في الفيلم (ذهاب إلى ملهى ليلي، يتخلّله مرور بمحطّة بنزين، ولقاءٌ عابرٌ مع دركي يُكنّ لها مشاعر حبٍّ من طرف واحد)، لا يمنح المُشاهد أي إشارة إلى تغيّر تصرّفاتها، أو تبدّل نظرتها إلى الأشياء. النتيجة طرحٌ يكاد يخلو من قوّة الرهان، تتوالى فيه مَشاهد ترفل في التبسيطية ووصف الأحداث، حين لا تصبّ في الإبهام الساذج، كما في غداء العمل وسط الطبيعة الغابوية الذي يرطن بعموميات وجمل فضفاضة، فلا يقول شيئاً غير الإصرار على لازمة "ضرورة إتمام العملية"؛ ومشهد معاقبة المشرف على المهمّة (المخرج نفسه) لمُساعدَيه على تقصيرهما، وهذا مشهدٌ ينمّ عن فقرٍ مُدقعٍ في الإبداع، يبدو فيه المشرف أقرب إلى جزّار من فكرة الشخصية السادية.

تنويعة كاريكاتورية، غير مُقنعة البتّة، على حبكة أفلام طبعت تاريخ السينما، كـ"ذا ترومان شو"، و"إشراقة أبدية لعقل طاهر" و"توتال ريكول"، من دون البُعد الفلسفي الوجودي لفيلم بيتر وير، وفي غياب الحسّية المتعاطفة مع علاقة الحبّ التراجيدية في نصّ شارلي كوفمان، وخاصة الجدلية الغامضة بين الواقع والحلم، انطلاقاً من ذاكرة دوغلاس كويد التي خلقت التشويق المتجدّد في تحفة بول فرهوفن، المقتبسة عن فيليب ك. ديك، وكفلت لها تعدّد القراءات.

في غياب مشروع جمالي مُتأثّر بتاريخ أفضل ما أنجز في هذا النوع، وطموح مقارعته بالمضاهاة، أو الانزياح عنه بالتجديد، وفق رؤية فنية نافذة، هذا الفيلم محاولة هزيلة تنسخ كليشيهات النوع على قصة لا جدّة فيها، ولا روح لها. ذلك أنّ الغموض ليس مُرادفاً للالتباس، وهناك خيطٌ رفيع بين الاقتصاد في الحبكة وعشوائية الاختيارات. وعلى الرغم من جرأة انكباب "جرادة مالحة" على نوعٍ متطلّب، فإنه يبدو واضحاً أنّ المخرج ـ كاتب السيناريو (مع عدنان موحجة، الذي أدّى دور الدركي) لم يشتغل على الكتابة والمعالجة الفنية بإتقان وإحكام ضروريين. هذه حالة تتكرّر مع المخرجين المتمرّسين في التلفزيون، حيث يكتسبون غالباً عادات وردود أفعال وطرق اشتغال مُعيّنة، يصعب التخلص منها عند مرورهم بالسينما.

دلالات
المساهمون