أطلقت مؤسسة "غيتي" للبحوث، ومقرُّها لوس أنجليس الأميركية، أول معارضها الإلكترونية على منصة Getty.edu/palmyra باللغة العربية، تحت عنوان "العودة إلى تدمر"، ويستمر ثلاث سنوات.
بصور فوتوغرافية نادرة، ورسوماتٍ معمارية، وقراءاتٍ تاريخية، يقف المشاهد أمام مدينة فريدة في بادية حمص السورية، استطاعت عبر آلاف السنين البقاء بجدارة، بوصفها مركزاً يعج بثقافاتٍ متعددة، على طريقٍ صحراوي يربط بين كبرى ممرات التجارة البرية، والبحرية، والنهرية، التي تمتد من الصين إلى روما، فيما يُعرف بطريق الحرير.
وتترك الصور الفوتوغرافية أكثر من غيرها إحساساً بفاجعة المدينة التي وقعت في 2015 تحت قبضة "داعش". هذه الصور تشير إلى آثار غنية تركتها ثقافات تداولت في السيطرة عليها، أو الاندماج في هذه المدينة، التي تحولت إلى مملكة شهيرة خلف عرش "زنوبيا" (240-274م).
آراميون، ويونانيون، ورومان، وعرب. ووثنيون، ومسيحيون، ومسلمون، وبينهم ملكة تمرّدت على الإمبراطورية الرومانية، فصارت أيقونة المخيال الشعبي، كل هؤلاء كانوا على مسرح تدمر التي استقرت بهذا الاسم عربياً، و"بالميرا" في اللاتينية الرومانية، وتعددت ألقابها بين "البلد الذي لا يقهر"، ولؤلؤة الصحراء" و "عروس البادية".
تحت كل هذه القرون، لم تتعرض تدمر إلا لما تتعرض له المدن، من إمبراطورية إلى أخرى، تسيطر فتبني معالمها، إما من جديد أو تعيد البناء بحجارة السابقين، أو ما تتعرض له أي مدينة من صروف الطبيعة، كالزلازل، وعوامل الحتّ والتعرية.
في 1980 أدرجت المدينة على لائحة التراث العالمي في يونسكو. لكن منذ عام 2011 وقعت الآثار السورية تحت طائلة التدمير ومافيات تهريب الآثار، وصولاً إلى 2015، حين سيطر تنظيم داعش على تدمر، فكانت مأساة المدينة الأكثر علانية، من خلال تفجير آثارها، بوصفها معالم "كافرة"، وإعدام عالم الآثار خالد الأسعد ذي الاثنين والثمانين عاماً، بقطع رأسه على الملأ، بين آثار مدينته التي كان من أفضل العارفين فيها، حتى لطالما اعتبر الأب الروحي لها، وحارسها المتصوف، و"الحفيد الشجاع للملكة زنوبيا".
يضم المعرض صوراً للمصوِّر الفرنسي لويس فيغنس (1831–1896) التقطتها عدسته في القرن التاسع عشر. أما الرسومات فهي من إبداع المعماريّ الفرنسي لويس فرانسوا كاساس (1756-1827) في القرن الثامن عشر.
كما يبرز المعرض استعراضاً شاملاً لتاريخ مدينة تدمر، قدمته الباحثة جوان أروز، الأمينة الفخرية لفنون الشرق الأدنى في متحف متروبوليتان للفنون، في مقال تتناول فيه بالتفصيل تاريخ مدينة القوافل عبر العصور.
وليد خالد الأسعد، يحكي في المعرض ذكريات نشأته بين أطلال هذه المدينة المهيبة، وعمله تحت إشراف والده خالد الأسعد، الذي كان مديراً للآثار والمتاحف فيها، حتى تقاعده في عام 2003، ثم تولى نجله هذا المنصب، حتى وقوع المدينة تحت سيطرة "داعش".
تدمير مدروس
يقول الأسعد لـ "العربي الجديد" إن تدمر تعرضت لدمار واسع غير مسبوق أصاب كل مكوناتها بلا استثناء، "ولا يمكن وصفه والتعبير عنه إلا بالقول إنه جريمة ضد الإنسانية جمعاء، ولا أظننا قادرين على تقييم مدى الأضرار، وحجم هذا الدمار بسهولة، ما دامت طبول الحرب تُقرع من حين لآخر".
ووفقاً له، فإن "مثل هذا الأمر يحتاج إلى عمل ميداني طويل الأمد، يتطلب تضافر جهود هائلة، وباستخدام أحدث التقنيات العلمية يضطلع به خبراء من ذوي الاختصاص والتجربة في كل المجالات. إنه أمر ليس بالمستحيل، ولكنه ليس سهلاً على الإطلاق".
الآثار التي دمرها "داعش" غير قابلة للاسترجاع، أو التعويض، حتى لو أعيد ترميمها، لأنها ستفقد أصالتها، وهي مبانٍ منتقاة بعناية فائقة، وجرى تدميرها بشكل ممنهج ومدروس. هذا ما يخبرنا إياه الأسعد.
ويعدد الأسعد الآثار الأبرز التي دُمّرت، من معبد بل، المعبد الأضخم والأكثر حفظاً للآثار الكلاسيكية في الشرق القديم، إلى معبد بعلشمين، النموذج الوحيد المتبقي، والدال على طراز العمارة الدينية السورية، إلى قوس النصر أيقونة تدمر الأجمل، وبوابة الشارع الطويل، إلى التترابيل الفخمة التي كانت تزين وسط هذا الشارع.
يضم المعرض صوراً للمصوِّر الفرنسي لويس فيغنس (1831–1896) التقطتها عدسته في القرن التاسع عشر. أما الرسومات فهي من إبداع المعماريّ الفرنسي لويس فرانسوا كاساس (1756-1827) في القرن الثامن عشر.
من المسرح الذي شهدت منصته فصلاً دموياً على يد "أشبال الخلافة"، إلى المدافن البرجية المتفردة، والتي تعبر عن الإبداع المعماري التدمري، إلى المدافن الأرضية وفريسكاتها الملونة والنابضة بالحياة، إلى القلعة العربية التي تجثم كالنسر الذي يحرس المدينة، إلى الواحة التاريخية الغنّاء والتي كانت تكلل الموقع تاجاً من الغار، إلى المتحف الذي كان يضم أضخم وأجمل مجموعة من الآثار، والمنحوتات، والمشغولات اليدوية التي خلفها الفنان التدمري في العالم، كتمثال أسد اللات والمومياوات ومنحوتة الربة أثينا - اللات وغيرها الكثير مما لم يورده الأسعد.
وبشأن الشوط الذي قُطع لاستعادة العافية فيما تبقى من المدينة، يقول "باستثناء تلك المجموعة من مقتنيات متحف تدمر والتي أمكن إنقاذها ونقلها إلى المتحف الوطني بدمشق، ومن ثمّ ترميم قسم كبير منها، إضافة إلى إزالة الكثير من الألغام التي زُرعت في الموقع الأثري، فإنه ومن وجهة نظري الخاصة لم يتم إنجاز أية أعمال تصب في مسار التعافي، واستعادة روح المكان وعافيته. للأسف نحن لا نزال نراوح في المكان، وأتمنى ألا يطول الأمر أكثر".
لكن الأسعد يحذر أيضاً لدى الحديث عن إحياء وإعادة بناء المواقع والمباني الأثرية المدمرة، لأن هذه البرامج -بحسب ما يفيد- يجب أن تتزامن مع إنهاء المأساة الإنسانية والتغلّب على كل المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الحرب.
يقول "ما نشهده اليوم هو تسابق عالمي محموم على إعداد مثل هذه البرامج، في الوقت الذي تستمر وتتفاقم فيه المأساة الإنسانية في سورية. فهنالك معضلة أخلاقية معقدة عندما لا نشاهد برامج حقيقية وحلول لهذه المأساة، في حين يتركز الاهتمام العالمي ويتمحور فقط حول ترميم التراث العمراني".
ويخلص في هذه النقطة إلى أنه في حالة تدمر يجب أن تؤخذ طبيعة تدميرها، كما متطلبات ومستويات الترميم، بعين الاعتبار. وبعيداً عن كل التجاذبات، فمهما تنوعت وتطورت خطط ووسائل وتقنيات الترميم، فإنها بالمطلق غير قادرة على تكرار أو استعادة أصالة الآثار المدمرة من دون إشراك المجتمع المحلي في صنع القرار، نظراً لأهمية وحساسية إعادة تأسيس العلاقة بين الموقع الأثري والمجتمعات المحلية، كما أن المبالغة في ترميم الآثار المدمرة سيكون عملاً خيالياً، وإنكاراً للمأساة التي حصلت، فالمهمة إذاً صعبة ومعقدة للغاية، على حد تعبيره.
يُعد المعرض إعادة تقديم لمعرض "إرث تدمر القديمة" الذي أطلقته "غيتي" عام 2017 في أول معرض إلكتروني عن تاريخها، ولكن هذه المرة تقدمه في حلة جديدة باستخدام تكنولوجيا حديثة وإضافة نصوص جديدة وترجمة باللغة العربية.
وليد الأسعد: الآثار التي دمرها "داعش" غير قابلة للاسترجاع، أو التعويض، حتى لو أعيد ترميمها، لأنها ستفقد أصالتها، وهي مبانٍ منتقاة بعناية فائقة، وجرى تدميرها بشكل ممنهج ومدروس.
وتعليقاً على ذلك، تقول ماري ميلر، مديرة معهد بحوث غيتي: "لطالما رأينا مدينة تدمر المذهلة وتاريخها الفريد بعين غربية عن طريق فنانين وباحثين من أوروبا وأميركا. ونهدف إلى أن يكون معرض "العودة إلى تدمر" مغايراً لهذه الفكرة وجديداً تماماً في فلسفته، وذا تأثير مماثل باللغتين العربية والإنكليزية".
وتقول مؤسسة "غيتي" إن إعادة تقديم المعرض باللغة العربية تأتي انسجاماً مع التزام المؤسسة "بتعزيز تنوّع مجموعاتها ومعارضها ومحتوياتها الرقمية وبرامجها العامة، بحيث لا يقتصر تقديمها على اللغة الإنكليزية، بل تشمل لغاتٍ أخرى تتوافق مع الموضوع ذي الصلة بهدف تقديم رؤى وتجارب تعليمية أصيلة".
وفي سبيل ذلك، تعاونت "غيتي" مع فريق مكون من خمسة باحثين واختصاصيين عرب لتقديم المشورة في كل خطوة من خطوات بناء المعرض.
ومن بين هؤلاء الخبراء الباحث التونسي رضا مومني، زميل برنامج أغا خان في جامعة هارفرد، والذي أجرى دراسات ميدانية في مدينة تدمر أثناء إعداد رسالته للدكتوراه.
انتصاراً للإنسانية
يقول مومني لـ"العربي الجديد" إن "تدمر كانت ولا تزال أعمدتها وتيجانها وجميع أطلالها المهيبة شاهدة على المكانة التي حظيت بها على مر التاريخ. وللأسف، ألحقت بها الحرب المدمرة في سورية، التي تدخل عامها العاشر هذا العام، دماراً واسعاً. لهذا اخترنا هذه المدينة الموغلة في القدم انتصاراً للإنسانية في وجه التطرف، ولزيادة الوعي بها وبدورها التاريخي، ولنرسل من خلالها أيضاً رسالة أمل بأن المدينة سيُعاد بناؤها يوماً ما".
"لمدينة تدمر العريقة جمال طاغ إذا عايشته ظلَّ خالداً في ذاكرتك. كانت المدينة ملتقى للثقافات، ولهذا صنعت لنفسها فلسفة معمارية وجمالية مميزة عكست مجتمعها المتنوع الذي احتضنته في صحراء الشرق الأدنى على مدار عصور عدة".
بدورها، تقول فرانسيس تيبراك، أمينة ورئيسة قسم التصوير في معهد غيتي للبحوث، والتي أشرفت على تنسيق المعرض "يتناول معرض العودة إلى تدمر موضوعاً قديماً، غير أنه مرتبط بعالمنا اليوم، فتدمر وما تزخر به هذه المنطقة من آثار لا يزال يمثل نقطة مضيئة على المسرح العالمي".
وتضيف "من المهم أن نلفت انتباه العالم للوضع الهش للمدينة التاريخية التي كانت مجتمعاً مزدهراً، ولاحتياجات أهلها المقيمين فيها إلى الآن، ولهؤلاء الذين يمنّون النفس بالعودة لها يوما ما".
يشار إلى أن "غيتي" ستتيح معظم صور المعرض النادرة لمشاركتها رقمياً وتعديلها وإعادة استخدامها مجاناً، وذلك تعزيزاً لالتزامها ببرنامج "المحتوى المفتوح"، وهو برنامج يتيح الصور المملوكة لـ"غيتي" للاستخدام العام مجاناً.