في مشهد واسع، مُصوَّر من علوّ، يظهر ميناء المدينة الأيرلندية بلفاست بألوانٍ قوية. منه، تنتقل الكاميرا (هاريس زمْبَرلوكُس) سريعاً (قطع حاد) إلى مشهد آخر بالأسود والأبيض، يظهر فيه حيّ عمّالي، يضجّ بحركة الأولاد، ويتبادل سكّانه التحايا بالأسماء، كأنّهم جميعاً يعرفون بعضهم بعضاً جيداً.
الفاصل الزمني بين المشهدين ـ الملوّن القصير، والأسود والأبيض، طول مدّة الفيلم (97 دقيقة) ـ يقارب نصف قرن، عقودٌ منه شهدت حرباً أهلية قاسية، عاش الأيرلندي كينيث براناه (1960) بعض طفولته فيها. ذكرياته وحنينه إلى المدينة، التي غادرها مُكرهاً، يكتب عنها فيلماً (سيناريو وإخراج)، يستذكر فيه تلك اللحظات القصيرة الحلوة من عمره، يوم كان لاهياً عن مشاغل العالم، ومنشغلاً بتفاصيل صغيرة، ظلّت عالقة في ذهنه حتّى بعد أنْ كَبر وصار سينمائياً، يكتب سيرته في فيلمٍ بعنوان "بلفاست" (2021)، من منظور الطفل الذي كانه عام 1969.
بعيني الطفل بادي (جود هيْل)، تُكتب سيرة المدينة لحظة اندلاع الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك. عام 1969، لم يفهم الطفل (9 أعوام حينها)، المحبوب والثرثار وصديق الجميع، ما الذي يحدث للشارع الذي يلهو فيه. خياله يسبق واقعه. يحارب ـ بترسٍ معدني (غطاء برميل القمامة) وسيف خشبي ـ خصومه، ويتخيّل قبل نومه رحلته إلى القمر. عند جدّيه (جودي دانش وكيرن هايندز)، يُعيد سرد أحداث يومه المشحون دائماً بانفعالات مبهجة، أكثرها التباساً علاقته بجارته وزميلة صفّه، المنشغلة عنه بطالبٍ آخر، ومع ذلك يُحبّها ويريد الزواج منها حين يكبر.
عالم الطفل بادي مُفرح وعفوي. الانشغال به يحيل السيرة الذاتية إلى مرتع بصري حلو. الأذى اللاحق ببطلها، جرّاء الصراع، يُضفي بشاعة على الحرب، ويثير في النفس كراهية لها، لأنّها أفسدت عالمه المُتخيّل، وخرّبت حياةً كان لها أنْ تمضي بالإيقاع السهل نفسه، المنقول إلى الشاشة باشتغالٍ سينمائي متماسك، مشفوع بالتفاصيل التاريخية الدقيقة.
بشاعة الحروب الأهلية تتأتّى، قبل كلّ شيءٍ، من مباغتتها للجميع. تأتي فجأة، وتعمّ. تغدو لحظة اندلاعها واقعاً يترسّخ منذ زمن بعيد، ولا مفرّ منها. المبتعدون عنها لا يمكنهم المكوث فيها. عليهم الرحيل، أو الموت بين طرفيها. هذا مُجسّد ببراعة في السيرة السينمائية، وفي الشخصيات المكتوبة بشغف. حنينه إلى عائلته، وإلى الشارع الذي نشأ فيه، طاغٍ. يؤجّل البحث في أسباب ما جرى، من دون نسيانه. يترك للنص وظيفة النقل التاريخي للوقائع، وللممثلين البارعين تأدية الشخصيات المجبولة بخيال طفل، يؤجِّل ـ كما تؤجّل السينما المبتهج بمشاهدتها بصحبة عائلته ـ الإحساس التراجيدي بمصائرها. ألوان أفلامها تكسر رتابة لونين (الأسود والأبيض) يخيّمان على مدينةٍ، يُعدّ لها خرابٌ فظيع.
في العام الشاهد على اندلاع الحرب، يدخل شبابٌ بروتستانتيّون فجأة إلى الحي المختلط بالمذاهب، ويعيثون فيه خراباً. يطالبون سكّانه بطرد جيرانهم الكاثوليك منه، بوصفهم أعداءً لهم وغرباء عليه. العائلة ـ المتخلّصة من بغضاء المذهبية ـ ترى في الحاصل عبثاً يُثقل كاهل حياتها. مخاوفها الحقيقية تتأتّى من دائرة الضرائب، التي تطارد المداخيل البسيطة التي يحصل عليها الأب (جايمي دورنان) من عمله في البناء خارج بلفاست. فكرة الرحيل تلازم معايشي الحروب. الزوجة (كاترينا بالف) تعاند مسارها المؤلم. ترفض الانتقال إلى لندن، كولديها (لويس مكاسكي، يؤدّي دور الشقيق الأكبر).
المنادون للحرب في "بلفاست" رجال دين متعصّبون وشبان طائشون، بينهم رجال عصابات ولصوص. وسط الخراب المنتظر، لا يغادر المرح النصّ، المشحون بسخرية وفكاهة تحيلان المُنجز السينمائي إلى مساحة عرض، اختلطت وتداخلت أشياء كثيرة فيها، كالحياة نفسها. لهذا، لم يغب المرح عنها. الحوارات مكتوبة بلغة سلسة، تستعير من الموروث السردي الأيرلندي الكثير، كما الموسيقى (فان موريسن) التي تنقل الإحساس الطاغي بالأغنية المتجدّدة أواخر ستينيات القرن الـ20، يوم كان العالم يشهد انقلابات ثورية في الفن والسياسة. اندلاع الصراع المسلّح يدفع الأب إلى التفكير بالرحيل إلى لندن أولاً، وإلى أقصى العالم لاحقاً.
جملةٌ تقولها صديقة الأم، في لحظة مسامرة وتبادل هواجس من قادمين إلى حيّهم، تخلط الجدّ بالهزل: "نعم. يولد الأيرلنديون ليرحلوا. لولاهم، لما ظهرت الحانات الأيرلندية في كلّ مكان في العالم". سطوة الكلمة طاغية، كقوّة التصوير، المتعفّفة عن الألوان، والمستعينة بموسيقى رائعة، تنقلُ إيقاعاتها المتوترة إحساساً بزمن بعيد، ومدينة أُجبر طفلٌ على مغادرتها، وبقوّة السينما عاد إليها ثانيةً.