"بطل" الإيراني أصغر فرهادي: حبكة مدهشة تصنع تعقيدات وتحوّلات

24 ديسمبر 2021
سارينا فرهادي جميلة "بطل": حبٌّ يريد إنقاذاً (فاليري هاش/فرانس برس)
+ الخط -

 

خطرت له فكرة الفيلم، عندما لاحظ أنّ وسائل إعلام إيرانية تسلّط الضوء، بشكل خاص، على عمل أخلاقي قام به مواطن عادي. الأخلاق، خاصة الكذب، ثيمة مُفضّلة عند أصغر فرهادي. كذبات صغيرة، وأحياناً كبيرة، تتبعها نتائج لم تكن بحسبان فاعلها. كرةٌ تكبر وتكبر، ويغدو التحكّم بها عسيراً، فتفلت من يديّ صانعها، وتخضع لتأثيرات خارجة عن إرادته.

كذبة، أو أمر آخر، أيّ حالة اعتيادية تتعلّق بالأخلاق: مواضيع تشكّل صميم أفلام المخرج الإيراني أصغر فرهادي. جديده "بطل" ("قهرمان" بالفارسية، 2021) ليس استثناءً. الفائز بجوائز من مهرجانات عالمية ـ آخرها الجائزة الكبرى، مناصفة مع "المقصورة رقم 6" للفنلندي يوهو كوسمانِن ("العربي الجديد"، 1 ديسمبر/كانون الأول 2021)، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ يعود مع فيلمه هذا، كما فعل مع "البائع" (2016)، إلى إيران، بعد سياحة مُخيّبة في إسبانيا، مع "الجميع يعلمون" (2018)، وأخرى استكشافية في فرنسا مع "الماضي" (2013). يُقرّر فرهادي العمل في بلده، وهذا أكثر ما يبرع فيه، وإنْ يكن جديده أقلّ براعة من أفلامه الإيرانية الأولى، رغم أنّه ـ بالتأكيد ـ أكثر براعة من فيلميه الأوروبيين.

يتهيّأ رحيم (أمير جديدي) لتقديم عرضٍ مُغر، برأيه ورأي صديقته وزوج أخته: سيعطي دائنه جزءاً كبيراً من الدَين، يُتبعه بالباقي لاحقاً. يأمل بإقناعه بإسقاط الشكوى ضده، بعد 3 أعوام في السجن، وبإعفائه من تمضية ما تبقى من الحكم فيه. لكنّ الأمور، ببساطتها الظاهرة في سيناريو فرهادي، مؤهّلة لتنقلب إلى تعقيدات محبوكة بخيوط دقيقة ومشدودة، لا تتيح مُتنفّساً، لا للأبطال ولا للمُشاهدين.

رحيم سجين مثالي. يلعب السيناريو على أخلاقه الحسنة، ليبني أحداثاً قائمة على الشكّ فيه. له إجازة يومين من السجن، فيسعى إلى إقناع دائنه. لكنْ، كيف بات يملك مالاً، وهو سجين؟ حقيبةٌ فيها ليرات ذهبية وجدتها صديقته في الشارع. نظراً إلى حبّها الشديد له وثقتها بأخلاقه، ومن دون دخول السرد في معرفة مبرّرات الحبّ لرجل في السجن، مُطلّق وله ولد مُعوَّق، مُستعدةٌ هي لإعطائه الكنز كي يفكّ أسره. صاحب المال يرفض تجزئة المبلغ، لأنّه لا يثق برحيم. هنا أيضاً تتجلّى فكرة تتردّد غالباً في كتابات فرهادي، وتُجسَّد سينمائياً في حبكة مُدهشة: اختلاف نظرة الآخرين إلى الشخص نفسه، حتّى في صفات محورية تُكوِّن شخصيته. شخصٌ خيّرٌ يُمكن أنْ يكون سيئاً، بحسب زاوية النظر إليه، وصاحبها والظروف التي يمرّ بها عند تشكيله زاوية النظر، وهذا أحد الخطوط الدرامية المؤدّية إلى ظهور خيوطٍ أخرى لاحقاً.

عند الصائغ، تتوالى الدلائل التي بدأها السيناريو لإثبات النواحي الخيّرة في شخصية بطله. رحيم يتردّد في البيع. هناك إشارتان تجعلانه يتراجع عن قراره، ويعيد التفكير: لن يأخذ مالاً حراماً. سيجد صاحبة الحقيبة، ويُعيدها إليها. فعلٌ يراه عادياً، لكنّه يضعه في آلةٍ تطحنه. يجد السيّدة، فيُصبح بطلاً في مجتمعه. حاجة المجتمعات إلى أبطال تُحوِّل فعلته إلى قضية كبرى، تنشغل بها وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، ويهتمّ بها مسؤولون وشخصيات. يجد رحيم نفسه في دور لم يكن مُستعداً له. تواجهه تحدّيات لم يكن ينتظرها، هو الذي ظنّ أنّ الأمر بسيط: عثر على شيءٍ، وأعاده إلى صاحبته.

 

 

لكنْ، كما صعد رحيم بسرعة على سلالم المجد، ومن دون أنْ يتوقّع هذا على الأقلّ، سيكون الهبوط مدوّياً. نتيجة إخفائه أمراً بحسن نيّة، وبناء على نصيحة أحدهم، يقع في دوامة، ويتجاذبه أشخاص ومواقف تدفعه، من دون إرادته في معظم الوقت.

خلاصة "بطل" كامنةٌ في مشهد الافتتاح. رحيم يصعد سقّالات، وُضعت على مكانٍ أثريّ محفور في الصخور، بحثاً عن صهره، ليُساعده في إقناع دائنه. ما إنْ يصل لاهثاً، حتّى يُخبره الرجل أنْ لا ضرورة للصعود، وأنّ عليهما النزول فوراً. أبطال أصغر فرهادي يُتقنون، كالعادة، أدوارهم في تأدية شخصياتٍ معجونة بالتناقضات والميول العدائية، وبالتجاذبات في لحظات اتّخاذ القرارات. كتابته مُحْكمة، كعادته. أما غير الاعتيادي، فحاضرٌ في مواقع التصوير، التي ابتعد فيها عن أجواء طهران، باختياره شيراز، المدينة الجميلة والمحبوبة من الإيرانيين بفضل تاريخها، مُحقّقاً أجواء بصرية آسرة في مشاهد عدّة، لها تأثيرها في الأحداث (الآثار الفارسية، السوق، إلخ.).

في شيراز، المدينة الجنوبية، طريقة عيش مختلفة بأسلوبها عن طهران، وشخصيات نافعةٌ أكثر لـ"بطل" فرهادي، في تأدية البطولة. تتحلّى الشخصيات ببراءة وبساطة، لا يتمتّعان بها أهل العاصمة، ذات الـ14 مليون فرد. منذ المشهد الأول، يُجسّد أمير جديدي هاتين البراءة والبساطة، بشكلٍ كامل وبكلّ عفوية، بمشيته وحركاته وابتسامته المحيّرة، المتراوحة حدودها بين السذاجة والمكر. يُمثّل أكمل ما يكونه رحيم في قوّته وضعفه، وعند خضوعه لتأثيراتٍ يمكن أنْ تُحوّل شخصاً لطيفاً ومُسالماً ظاهرياً إلى عدوانيّ شرس.

حكاية "بطل" تُبدي توتّرات المجتمع الإيراني المعاصر بكل ذكاء. متشائمة ومليئة بالتناقضات المجتمعية. تأملٌ في معنى البطولة والحاجة إلى خلق بطل. التحدّيات الأخلاقية التي تواجه الأفراد تُحرّك السرد عند فرهادي، من كذب واحتيال وتلاعب، وما يُشكّل سمعة الفرد. هذه تخضع اليوم لعامل جديد، وجد طريقه إلى سينما المخرج الإيراني: وسائل التواصل الاجتماعي تتغلغل، شيئاً فشيئاً، في تحديد مسارات التحديات. تتطوّر في "بطل" مع تطوّر السيناريو، لتُمسي مُحرّكاً رئيسياً فيه، كأنّها نقلة غير مُحدّدة بهذه القوّة في البداية، وفرضتها طبيعة تطوّر الحدث والشخصية. عبرها، يتمّ التأثير في سمعة البطل، وتكذيب حكايته.

في هذه الحكاية الطويلة (120 دقيقة)، لا تنفكّ التحوّلات تظهر، واحدة بعد أخرى. ينبع حدثٌ جديد بعد آخر، ليُثير الشكّ بكلّ ما سبقه، ويدعو إلى إعادة التفكير فيه، وتوزيع الأدوار مجدّداً. أصغر فرهادي يستكشف كلّ ما يمكن لكذبة صغيرة، ولو كانت نبيلة وغير مقصودة، أنْ تصنع من نتائج، يصعب التحكّم بها. إنّه يدفع بالحبكة بعيداً، بمبالغة أحياناً، لتصبح الأمور أكثر عبثية، ولتُنتج ردود فعلٍ، لها ما يُبرّرها ويقودها إلى أخرى.

فعالية السرد، وقوّة ما يُقدّمه أصغر فرهادي من براهين، واتقانه كلّ حبكة لتبدو رداءً مشغولاً بحِرفية كبيرة، هذا كلّه لا ينفي شعوراً بنقصان شيءٍ ما، لعلّه التفاعل مع الشخصيات، أو حرارة السرد، للتخلّص من برودة عمل كامل متكامل.

المساهمون