"النهر" لغسان سلهب: لوحات تروي انفعالات

12 اغسطس 2022
علي سليمان ويمنى مروان: رحلة سينمائية في الروح والجسد (الموقع الإلكتروني لـ"أفلام لوزانج")
+ الخط -

 

يُتيح "النهر" (2021)، للّبناني غسان سلهب ـ المُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ74 (4 ـ 14 أغسطس/آب 2021) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي" (سويسرا) غي عرضٍ دولي أول ـ منافذ كثيرة للدخول إلى نصّه، المفتوح على حكاياتٍ وعلاقاتٍ وتفاصيل، والمنغلق، مكانياً، في غابةٍ، تمتلك رموزها ومفاتيحها وإشاراتها.

رجلٌ (علي سليمان) وامرأة (يمنى مروان) يتجوّلان معاً في تلك الغابة، التي توحي بأمكنةٍ وفضاءات عدّة، بما فيها من أسيجة وأشجار ومساحات مفتوحة على اتّساعها، ومغارة؛ وبما يُقال أيضاً من إيحاءات، ربما تبقى مجرّد إيحاءات. إذْ يُمكن أنْ تكون الغابةُ جنّةً/جحيماً، مُلتبس المعاني والأشكال؛ أو سجناً، يدفع الثنائي إلى نوعٍ من اغتسالٍ ومُكاشفة؛ أو حياة مُعلّقة بين حبٍّ ماضٍ ولقاء، كأنّه الأخير.

إسقاطات كهذه منبثقةٌ من مُعاينة ذاتية. البداية معقودةٌ على صمتٍ مطبق بين الرجل والمرأة، في مطعمٍ خالٍ من روّاده، والعامل الوحيد فيه يختفي سريعاً من المشهد، ما يُثير تفكيراً بأنّ "النهر" مُقبلٌ على غموضٍ والتباسات في مساره الدرامي. الصمت ثقيل، باستثناء أغنية، ومطرٌ قليل، وحفيف أوراق الشجر، ولاحقاً صوت طائرةٍ يشقّ الحيّز المكاني والروح الفردية والمشاعر كلّها، بما فيه من قسوة، كأنّه يمزّق جسداً ونَفْساً. صوت الطائرة سيُسمع، بالمواصفات نفسها والحدّة نفسها، في لقطاتٍ لاحقة، ما يشي بحربٍ في بلدٍ غير مُتمكّن من إنهائها، وغير قادر على الخروج منها إلى حياةٍ؛ أو بحربٍ في ذاتٍ وروح. الغابة تتّسع لحياةٍ، لكنّ الأسيجة كثيرة، وتكسيرها غير نافعٍ، وإنْ تمنح الثنائيّ منفذاً إلى حيّز آخر فيها.

لا جديد في قولٍ مفاده أنّ الذاتيّ في غسان سلهب أساسيّ في "النهر"، وهذا نفسه أساسيّ في أفلامه. سمةٌ يشتغلها سلهب في أفلامه، مُحوّلاً إياها إلى متتاليات سينمائية، تزخر بفنون مختلفة، يصنع منها مُنجزاً متكاملاً، سيكون "النهر"، ثالث ثلاثيته الثانية بعد "الجبل" (2010) و"الوادي" (2014)، أكثرها سلاسةً، من دون أنْ تعني السلاسةُ تسطيحاً. سلاسةٌ في سرد حكاية، أو تصوير انفعال، أو معاينة حالة، أو التقاط نبض، أو استعادة لحظات من تاريخ وذاكرة. سلاسةٌ تحثّ على مزيدٍ من الانصراف إلى عوالم ولحظات ولقطات؛ ومن التأمّل في سيرة كلّ فردّ من الثنائي على حدة، وفي ارتباطه بالآخر، وفي سيرة غسان سلهب أيضاً؛ ومن تنقيبٍ، في أسئلة مُعلّقة، عن حياة وهوية ومشاعر وحرب وبلد وذات.

 

 

الصمتُ، المخيَّم على بداية "النهر" دقائق عدّة، يتحوّل تدريجياً إلى كلامٍ، ينتقل من اقتصادٍ في قولٍ إلى مصارحةٍ تنمو بهدوء، في جولةٍ تكشف خفايا كثيرة، يبنيها غسان سلهب نصّاً وإخراجاً كصائغٍ يتقوقع على أحجاره الكريمة، صانعاً منها أنواراً تُحرِّك في الذات والروح ما يصعب على غيرها تحريكه. ما يُقال بين الرجل (اسمه غسان، وهذا يظهر لاحقاً عندما تُناديه المرأة في لحظةٍ ما) والمرأة مليءٌ بتساؤلات فردية وعامة، فالاغتسال ـ إنْ يكن مقصوداً ـ محتاجٌ إلى بوحٍ وصراحة، والغابة، بمساحاتها الواسعة والمنغلقة، تمنحهما شيئاً من تحرّر في القول والانكشاف والتصفية.

الطقس خريفيّ، وباسم فيّاض (المُصوّر السينمائي) يتفنّن في التقاط ما يمنحه طقس كهذا من أحاسيس ومناخٍ. الطقس نفسه يُلازم الثنائي في تلك الجولة، كأنّه حارسٌ لهما، أو مُحرِّضٌ على مُكاشفة وبوح، وهذان المكاشفة والبوح يحفران مسام جسد وروح، لإخراج ما فيهما من مُعلَّق وغير محسوم، وإنْ يكن إنهاء المُعلّق وحسم غير المحسوم مستحيلاً، في حياة مليئة بارتباكات ومشاغل ومنعرجات وتساؤلاتٍ. المكاشفة والبوح مشغولان بدقّةِ مَهمومٍ باختزالٍ وتكثيف، فيصنع من الكلام القليل، إجمالاً، ما يُحوِّل الصُور والمتتاليات البصرية (توليف ميشيل تيّان) إلى مشهديةٍ، تتكامل فيها حكايات وحالات، ينشغل بها غسان سلهب في "النهر"، وفي غيره أيضاً.

إنْ يكن ممكناً وصف لقطات عدّة في "النهر" بأنّها مقتربةٌ من لوحاتٍ تشكيلية، فالفن هذا حاضرٌ في كلامٍ يقوله غسان (سليمان) عن مهمّة أخيرة يُكلَّف بها قبل سنين. هذا يكشف أنّ للرجل ماضياً نضالياً، ولغسان سلهب أيضاً ماضٍ نضالي مثله. لوكاس كْرانَك، ولوحة سالومي حاملة رأس يوحنا المعمدان على طبق، يتذكّرهما غسان في سرده حكاية المهمة الأخيرة له في بودابست. لكنّ التصوير بحدّ ذاته يمنح شعوراً بمشاهدة لوحاتٍ مختلفة، خاصة في لقطات كبيرة وبعيدة، تجمع بين رمادية الطقس وشعور الثنائي بانغلاق الغابة عليهما، وبحث الرجل والمرأة عن منفذٍ أو إجابة. بلوغ النهر يمرّ عبر مغارة فيها صناديق عسكرية، مكتوبٌ عليها باللغة العبرية: أتقع المغارة في جنوب لبنان، زمن الاحتلال الإسرائيلي؟ هذا غير مهمّ، فالأهم كامنٌ في أنّ حرباً واقعةٌ في بلدٍ، تكاد تُشبه تلك الحرب الواقعة في ذاتٍ وعلاقة.

الواقع ماثلٌ، بشحنةٍ عاطفية وواقعية وفكرية، في سيرة غسان/علي سليمان، أي غسان سلهب: هناك إشارة رائعة، في سياق الجولة، إلى علاقة هذا كلّه بغسان سلهب الفرد والشخص والإنسان، قبل السينمائي ومعه. فعلى جذع شجرة، يظهر 1958، وهذا كافٍ لإزالة كلّ تردّد بين إكمال مُشاهدة "النهر" كفيلمٍ مليء برموز (هذا لن يكون منفصلاً عن وقائع وتفاصيل حيّة)، أو كنصٍّ يعكس فصولاً من سيرة السينمائي، كفرد وشخص وإنسان. "النسختان" مُثيرتان لمُشاهدةٍ ممتعة، بكل ما فيهما من أعطابٍ وخرابٍ ورغباتٍ وتوقٍ إلى نفاذٍ من انغلاق واختناق.

متعة المُشاهدة، يُتقن غسان سلهب كيفية صُنعها، مُحرِّضاً على إكمالها ببحثٍ دائمٍ عن مفردات وإجابات ومعانٍ، وعلى إيلاء متعة المُشاهدة نفسها اهتماماً أساسياً أيضاً.

المساهمون