"هذه قصّة حقيقية". تقديم "المويتارنيّ" (2021)، للاسكتلندي كيفن ماكدونالد، يؤكّد حقيقة القصّة المروية في فيلمٍ، يجعل الوثائقيّ صنيعاً روائياً، لاغياً كلّ حدّ بين النوعين، مع إعلاء شأن التوثيق، المُصوَّر بلغة روائية. القصّة الحقيقية تكشف إحدى فظائع الإدارة السياسية والقيادة العسكرية والأمنية في الولايات المتحدّة الأميركية، في مرحلة ما بعد "11 سبتمبر" (2001)، تاريخ الاعتداء الإرهابيّ على البلد وناسه. الحجّة كافية لخرق كلّ قانون وسلوك أخلاقيّ، فالاقتصاص من الإرهابيين المعتدين على البلد وناسه، بالنسبة إلى الإدارة والقيادة، غير معنيّ بأي قيدٍ، لأنّ الأهمّ يكمن في العثور على كلّ من يصلح لإدانته، وإنْ من دون محاكمة.
يُشير الفيلم، في نهايته، إلى أنّ 779 معتقلاً، محتجزين في غوانتانامو، مُدانون بارتكاب أفعالٍ جُرمية. "(لكنْ)، هناك 3 إدانات منها فقط نُقضِت في الاستئناف". المعلومات المكتوبة في ختام "الموريتانيّ" كثيرةٌ، تصلح لأنْ تكون فيلماً توثيقياً بحدّ ذاته. سياق الحكاية يشي بكثيرٍ من التوثيق، كأنّ الممثلين والممثلات يكتفون بتقديم شخصياتٍ حقيقية، بالطريقة التي تتصرّف بها الشخصيات الحقيقية في أعوامٍ مديدة من الصراع مع سلطةٍ، تتجاوز القانون والأخلاق بثقةٍ كبيرة في صوابية ما تفعله. فالحسّ الوطني الفاقع، والمبالغ به، يُعمي البصيرة، والكراهية طاغية، والرغبة في ثأر سريعٍ تُغيّب كل منطق في الحصول على معلومات، وعلى تحليلها بروية، لتبيان مدى مصداقيتها.
إنجاز "الموريتانيّ" وثائقياً أفضل من تحويل التوثيق إلى روائيّ، يعجز عن امتلاك شرطه السينمائيّ، لثقلٍ يحمله الواقع، أو لرغبةٍ في إخضاع الروائيّ لوقائع تلك القصّة الحقيقية. ورغم أنّ الشخصيتين الأساسيتين، المهندس الموريتانيّ مُحمدو وُلْد صْلاحي (الدارس في ألمانيا) والمحامية الأميركية نانسي هولاندر، مُقدَّمتان سينمائياً مع طاهر رحيم وجودي فوستر، بما يمتلكانه من اختبارات واشتغالات وتنويعات عدّة، بعضها يُركَن إليه كدرسٍ في الأداء المترفّع عن التصنّع والتشاوف والعاديّ؛ يميل النسقُ المُعتَمد في صُنع الفيلم إلى التوثيق، ما يحول دون تمكّنهما من إشهار ما لديهما من مخزون ثقافي وفني وتأمّلي، ومن بلورة دائمة للتمثيل وفقاً لحاجات الشخصية والموضوع والسياقات والعلاقات. كأنّهما، بهذا، يتراجعان أكثر من خطوة إلى وراء الشخصيتين، لتركهما تبرزان في المشهد كلّه.
بالإضافة إلى ذلك، هناك الخطاب الانفعالي، المرافق لسيرة مُحمدو وُلْد صْلاحي في معتقل غوانتانامو. خطابٌ يبغي مقارعة خطاب السلطة الأميركية، المتضمّن قمعاً وتنكيلاً وإخفاء معلومات وتزوير أخرى. خطابٌ يرتكز على حسٍّ إنسانيّ في مقابل وحشية الخطاب السلطوي، وعنف الذين يلتزمونه في مقاربتهم أحوال البلد وناسه بعد الاعتداء الإرهابي.
نانسي هولاندر ناشطة ضد حرب فيتنام، وهذا يمتدّ في تاريخ سيرتها الحياتية والمهنية إلى الآن. الملازم ستيوارت كاوتش (بِنِدِكت كامبرباش) محمَّل بغضبٍ وحقدٍ يكفيان لتدمير العالم، فصديق له يُقتَل في الطائرة الانتحارية المصطدمة بالبرج الجنوبي لـ"المركز العالمي للتجارة"، وتكليفه الادّعاء على المتّهم الموريتاني متأتٍ من هذين الغضب والحقد (تلاعب عاطفي للإدارة والقيادة الأميركيتين). لكنّ ملفات سرّية يحصل عليها تُخبره شيئاً عن عنف المحقّقين العسكريين مع المتّهم، ومدى تنكيلهم به، ما يُحدث فيه تبديلاً عميقاً، إذْ يرى التنانين الأصلية التي تُحرِّك الإدارة والقيادة الأميركيتين، بعيداً عن التزام الدستور والقوانين والأخلاق.
كلمة صْلاحي في بداية أول جلسة محاكمة له مليئة بالانفعال، المُكمَّل بتبجيل الحريات والعدالة والديمقراطية في الولايات المتحدّة الأميركية، والهادف إلى إثارة تعاطف المحكمة معه، بقوله إنّه موافق على أي قرار يُتَّخذ، طالما أنّه يُحاكَم للمرة الأولى منذ أعوام على اعتقاله. تبرئته والمطالبة بإطلاق سراحه دونهما عقبة التعنّت العسكري والاستخباراتي، زمن إدارة باراك أوباما (كما يُشير الفيلم)، وهذا كافٍ لتأجيل تنفيذ حكم المحكمة سنين مديدة، إذْ يُطلق سراحه بعد 14 عاماً على اعتقاله، في أحد أيام نوفمبر/ تشرين الثاني 2001.
تفاصيل كثيرة تُروى بلغة توثيقية، تخلو من أي مشهدية سينمائية تخرج على العادي، علماً أنّ "الموريتانيّ" يروي سيرتين اثنتين، لا واحدة: سيرة المتّهم المعتَقل، وسيرة محامية تواجه آلة متحكّمة بالبلد وناسه، منذ حرب فيتنام، على الأقل، إلى معتقل غوانتانامو، وما بعده.
لكنّ أهمية "الموريتانيّ"، بعيداً عن كلّ تحليل نقدي وسجال أخلاقي وقانوني، كامنةٌ في قدرته على توثيق الحكاية بصرياً، لأنّ الحكاية نفسها إدانة لنظام وإدارة وقيادة، رغم أنّ إيحاءاتٍ قليلة للغاية تقول إنّ هناك شيئاً ما بين المتّهم وبعض قياديي "طلبان" و"القاعدة" (يخضع صْلاحي لتدريبات مع "القاعدة" لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان، وهذا يقوله المتّهم للمحقّقين، مشيراً إلى أنّ الأميركيين مُشرفون على التدريبات والمواجهة حينها).
هذا لن يُلغي الموقف الإنساني والأخلاقي لـ"الموريتانيّ"، إخراجاً وتمثيلاً. لكنّه لن يصنع فيلماً سينمائياً، إنْ يكن روائياً أو وثائقياً، فطغيان الحكاية الأصلية يحول دون صُنع روائيّ كامل أو وثائقيّ كامل، والتداخل بين النوعين، وهذا مُحبَّبٌ ووفير في السينما، غير مُكتمل بصرياً.
مع هذا، ألن تكون قراءة المكتوب والمنشور عن الحكاية الأصلية، ولمُحمدو وُلْد صْلاحي كتابٌ مترجم إلى لغات عدّة عن تجربته المريرة تلك، أكثر مرجع يُركَن إليه لمعرفة تلك الحكاية، وسيرة صاحبها؟