"أيضاً رأيت" لـ باسل زايد... احتمالات أخرى للموسيقى

12 ديسمبر 2021
إلى جانب كل أغنية، ثمّة لوحة يرسمها الفنّان حسّان مناصرة (العربي الجديد)
+ الخط -

في ألبومه الجديد، "أيضاً رأيت"، يقدم الموسيقي باسل زايد وجهة نظر مغايرة حول الموسيقى والشعر العربي، وعلاقتهما اللحنية والإيقاعية المتبادلة، تجانساً وتنافراً؛ حيّز لم يقترب منه كثيرون، خاصة وسط مشهد الموسيقى البديلة العربية، الذي يعمد إلى تكريس شعرية اللغة العامية، ويتفادى، إلى حد ما، الغناء باللغة العربية الفصحى، خاصة حديث قصائدها، متوجهاً نحو الشعر الكلاسيكي حين يفعل ذلك.

وفي حين تبدو ظاهرة العودة إلى ما هو "أصيل" جذابة لكثيرين من رواد الموسيقى العربية المعاصرين، يبدي زايد، عبر هذا الألبوم، اهتماماً أكبر بالشعر المعاصر، وما ينطوي عليه من جزالة في اللغة ورصانة في المعنى.

يضمّ "أيضاً رأيت" قصائد لـ أنسي الحاج، ووديع سعادة، وعبّاس بيضون، وسركون بولص، وجورج شحادة (قصيدتا الأخير منقولتان إلى العربية بترجمة أدونيس)، ومغناة بصوت زايد عبر ثماني أغان، هي "الكاذب"، و"رأيت أيضًا"، و"طائر أفريقيا"، و"ضجيج"، و"القتلة"، و"جلّاد"، و"انتظرناك"، و"هناك حدائق".

أغان تتفرد في تفاصيلها الموسيقية، وتتشابه في جوها العام في آن؛ الجاز نغمة مهيمنة، اللحنية الانسيابية معقدة في تركيبها وبعيدة كل البعد عن الثرثرة السمعية، الآلات المستخدمة توائم الألحان الشرقية والغربية، حتى أنها تكاد تمحو الحد الفاصل بينهما، الصولوهات (الألحان المعزوفة بشكل فردي) متقنة وغير مقحمة، تتولد عمّا يأتي قبلها، وتمهد لما هو بعدها، فتصنع قوساً لحنياً يسير في دورة حياة كاملة.

ما من "فذلكات" موسيقية في التأليف، ولا كليشيهات ليُتكأ عليها. اللحن بسيط، مباشر، يقدم نفسه بنفسه، ويؤكد على المعنى حيناً، ويوحي به حيناً آخر، تاركاً المتلقي مع أثر مزدوج؛ ذاك الذي يحدثه المعنى، وآخر هو صنيعة الموسيقى المستوحاة من صلب المعنى ذاته.

لم ينجز الموسيقي الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة مادته وحيداً، بل تعاون مع كل من ماتياس كُنزلي الذي عمل على لعب وتوزيع الإيقاع، وعازف التشيلو نسيم الأطرش، الذي احتل بآلته مساحة كبيرة من توزيع العمل. التجربة جماعية، والمساحات الحرة شاسعة، خاصة في ما يتعلق بتوليف العناصر اللحنية مع تلك الشعرية.

يوضح البيان الصحافي الذي رافق صدور الألبوم، أن زايد ومعه فريقه، عملا على تجسيد انطباعاتهما عن النصوص الأدبية عبر إيقاعات وتفاصيل لحنية؛ فيقرأ العازف النص قبل سماعه الألحان الأساسية، وعبر ذلك يتاح له التعبير عما تسرب إليه من انطباعات وعواطف وأفكار بحرية أكبر، من دون التقيد باللحن الأساسي.

لعل أكثر ما يثير الإعجاب في تجربة زايد هو ابتعادها عن الفهم السائد، الخاطئ حيناً والمصيب حيناً آخر، لعلاقة الكلمة، أو نبر الكلمة وصوتها على وجه التحديد، باللحن الموسيقي؛ فمن المعروف أن اللغة علم يُعنى بالأصوات، بدءاً من أصغر أجزائها، أي الأحرف، وصولاً إلى تراكيبها الجملية المعقدة، الأمر الذي يفترض وجود علاقة عضوية وحيوية بين المكتوب والمسموع؛ فالصوت هو ما يُسمع عند لفظ الحرف.

في عمل زايد، توضع تلك العلاقة موضع الاختبار الصعب، فيختار الموسيقي لعمله قصائد نثر، ويقيم علاقة معقدة، غير متجانسة في بعض الأحيان، بين الكلمة واللحن من ناحية الإيقاع والرنين، مقدماً مثالاً جدياً عن قدرة الموسيقي على نحت كيانين مستقلين ومتوازيين، من دون أن يشكّل أحدهما مرآة عاكسة للآخر.

أما عن النصوص وعلاقة الملحن بها، فهي شخصية إلى أبعد الحدود، الأمر الذي بدا واضحاً عبر التفاصيل الرهيفة التي يقترحها "أيضاً رأيت". يختار زايد قصائد عمله من مصافي الشعر العربي المعاصر، ويحسن المحافظة على هيكلها كما هو، ويمتنع تماماً عن محاولة تفسيرها وتبسيطها، تاركاً الباب مفتوحاً للخيال والتأويل.

ما مِن تعديل يذكر على النصوص وبنيتها، بل أبقى زايد مادته خاماً، على أن يكيّف اللحن ليحمل ثقلها. المعاني ذات صلة، تخص مشاكل المجتمع المعاصر، مستعينة بكلماته ومفرداته، واصفة أزماته وأوجاعه، خيباته وانتصاراته الصغيرة، أمر ما كان ليتحقق ذات القدر لو راح الموسيقي ناحية الشعر الكلاسيكي القديم.

إلى جانب كل أغنية في ألبوم "أيضاً رأيت"، ثمّة لوحة انطباعية يرسمها الفنّان حسّان مناصرة، بأسلوب سوريالي يضفي عليه نهجه الفني الخاص؛ فيعيد عبر لوحاته تلك قراءة القصيدة من جديد، ويضفي إلى الموسيقى لوناً وملمساً لا يسع المتلقي إلا أن يلاحظه، فضلًا عن أنه يقدم مفهوم الغلاف الموسيقي (Cover) بشكل جدي، مؤكداً على أنه أداة جذب لا يستهان بها، وعنصر أساسي في الانطباع الأولي الذي يكونه المتلقي عن العمل الموسيقي.

يشكل ألبوم باسل زايد الجديد تجربة بالغة الأهمية في عالم الموسيقى العربية المعاصرة.. تجربة تسعى إلى قلب ما هو سائد، والتأسيس لمفاهيم جديدة تعيد إلى اللغة العربية الفصحى فاعليتها وتأثيرها، وتعوم على السطح ما تضمره الموسيقى من إمكانات واحتمالات لم نختبر حدودها بعد.

المساهمون