ميزات عدّة تسم "أوروبا" (2021، 72 د.) لحيدر رشيد: اعتماد مُطلق على جسد الممثل وحركاته وملامح وجهه وانفعالاته وسلوكه وتعابيره الصامتة. انعدام الكلام، رغم جُمل قليلة، تُقال في لحظاتٍ عابرة، وبعض الجمل كلمات لا أكثر. استعانة بواقعية حادّة، بتوغّل الكاميرا (مدير التصوير: ياكوبو ماريا كاراميلا)، أحياناً، في تفاصيل تُثير قرفاً وغثياناً. لقطات قريبة، كأنّ هناك رغبة في إرغام المُشاهد على الالتصاق بالشخصية تماماً، وتشكيل كائنٍ حيّ واحدٍ منهما. حركة كاميرا سريعة، أحياناً، لمواكبةِ مُطاردةٍ، أو لمُتابعةِ هروبٍ وركضٍ، أو للإمعان في نقل الواقعية بحذافيرها إلى صُور متتالية؛ وحركة هادئة، ترافق الشخصية في حميمية مسائل ومشاعر، كاهتمامٍ بجواز سفر، وبحثٍ عن مأكلٍ في غابةٍ مليئة بأشجارٍ وأنهارٍ ومتاهات، ومناجاة أمٍّ في خضم محاولة مستميتة لبلوغ مهجرٍ أوروبيّ، بعيداً عن خرابٍ يعتمل في بلدٍ وبيئة.
ميزات كهذه تجعل "أوروبا" ـ المشارك في النسخة الـ53 لـ"نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ اختباراً لكيفية تحويل الصمت والحركة والملامح إلى لغةٍ، تبوح بذاتٍ وروحٍ، وتعكس ألماً ورغبة في خروجٍ آمن إلى سكينةٍ وسلام. الاختبار يُنتج فيلماً، يمتلك شكلاً سينمائياً يتوافق وسيرة شابٍ يُدعى كمال (آدم علي)، يُعرف لاحقاً أنّه عراقيّ، يتسلّل عبر تركيا إلى بلغاريا، ويبدأ رحلة عذابٍ وخوف وقلقٍ وتحدّيات، قبل أنْ تحصل خاتمةٌ معلّقة أو مفتوحة أو ملتبسة، بعد لقاء غير متوقّع مع رجلٍ (بياترو سيسيريالو)، يدفعه إلى بحيرة كبيرة، رغم أنّ الكاميرا تبقى لصيقةً به، من دون كادرات واسعة، تُتيح رؤيةً خارج الشخصية وتفاصيلها وعالمها وانشغالاتها.
مُشكلةٌ أولى تتمثّل بمعلومات مكتوبة في مطلع "أوروبا"، عن وقائع تشهدها عملية تهريب المهاجرين من تركيا إلى القارة العجوز. معلومات كهذه تُلغي بعض الثقل الدرامي والتكثيف السرديّ، اللذين يعتمدهما حيدر رشيد في تصوير حكاية الهروب إلى حلمٍ، لن يُدرك أحدٌ مدى تحقّقه من عدمه. الإلغاء حاصلٌ، لأنّ المعلومات تؤثّر في مُشاهدٍ قبل مُشاهدته الحكاية المروية بالصُور والتمثيل، والتأثير يُمكن أنْ يكون إيجابياً، فيتعاطف المُشاهد مع الشخصية منذ البداية؛ ويُمكن أنْ يكون سلبياً، لأسبابٍ لها علاقة بنظرة المُشاهد وتفكيره ورؤيته الخاصة بأحوال الهجرة والمهاجرين.
في الحالتين، التأثير مُضرّ بمُشاهدةٍ، يُفترض بها أنْ تصنع كلّ شيءٍ في علاقة المُشاهد بما يُشاهده على شاشة كبيرة. يزداد الضرر، لأنّ "أوروبا" غير معنيّ البتّة بمؤثّرات خارجية، كالموسيقى مثلاً، لانغماسه العميق في واقعية قاسيةٍ، وفي اتّكائه على انفعالاتِ الشخصية وتعابيرها الصامتة، غالباً. التفسير الكامن في تلك المعلومات، المتعلّقة بوقائع مجحفة بحقّ ساعين إلى خلاصٍ ما عبر هجرةٍ غير شرعية، يوجِّه المُشاهد في متابعته، أو بعض متابعته على الأقلّ، أحداثاً يُمكن، بلغة سينمائية، قولها عبر صُور وأداءٍ واشتغالاتٍ درامية وفنية.
تقول المعلومات إنّ وصول المهاجرين إلى الحدود بين أوروبا وتركيا "مُنظَّمٌ من قِبل تنظيمات إجرامية، بالتعاون مع قوى شرطة الحدود وموظّفين كبار في الدولة". تذكر أنّ المهاجرين الباحثين عن أمان يتعرّضون لقهرٍ واغتصابٍ ممن "يُفترض بهم أنْ يكونوا حماةً للقانون، الذين يستغلّون المهاجرين بالعنف والترهيب، ويطردونهم إلى ما وراء الحدود". تُضيف أنّ هناك مراقبة للغابات الواقعة على تلك الحدود، والمراقبون أفراد ينتمون إلى جماعاتٍ مسلّحة ومنظّمة، مدنية وقومية، تُطلق على نفسها اسم "صيادو المهاجرين".
بعض تلك المعلومات قابلٌ لتفسير بصريّ، يحصل في لقطاتٍ قليلة (التعنيف اللفظي والقسوة اللذان يستخدمهما من يُسهِّل عملية الهروب لقاء أموال كثيرة؛ مُطاردة مسلّحين لمهاجرين، وقتل بعضهم أحياناً؛ نظرة خبيثة لأحد مُسهّلي الهروب من تركيا إلى أوروبا إزاء امرأة حامل؛ أصوات سيارات الشرطة، التي تُلاحق هؤلاء هنا وهناك؛ إلخ.). التفسير البصري متوافقٌ وأداء آدم علي، المتمكّن من تقديم شخصية كمال بكلّ ما تحمله من قهرٍ وإذلالٍ وخوف ورغبةٍ، واحتيال على ما يواجهه للحصول على ما يحتاج إليه، في رحلة الهروب. هذا يصنعه توليفٌ (حيدر رشيد وسونيا جانّيتو، كاتبا الفيلم أيضاً)، يمنح المَشَاهد حيويتها المطلوبة.
تجربة صُنع "أوروبا" تؤدّي إلى فيلمٍ، يُمكن تجريده من كلّ مضمونٍ خطابيّ عن هجرة ومهاجرين، وموقف أوروبا من الهجرة وكيفية تعاملها مع المهاجرين، لمتابعة أجمل وأدقّ لتفاصيل سينمائية. الإشارة إلى بلغاريا تحدّد فعلاً جرميّاً بحيّز واحدٍ، رغم أنّ التحديد مطلوبٌ، كاعتبار المُهاجر عراقياً، فهذا كلّه غير لاغٍ أهوال الهجرة ومصائب المهاجرين جميعاً، باختيار وسائل غير شرعية لبلوغ أمانٍ منشود. التوقّف عند "الحدود التركية مع بلغاريا" (كما في نهاية المعلومات) يؤكّد الجغرافيا التي تشهد فصول تلك الرحلة.
رغم هذا، يُتيح تجريد الفيلم من السؤال المباشر عن الهجرة والمهاجرين إمكانية معاينة مختلفة لمتتاليات بصرية، فيها من جماليات الصورة ما يكفي للتنبّه إلى حُسْنِ اشتغالٍ.