في حوار مع الصحيفة اليومية الفرنسية "لوموند" (19 فبراير/شباط 2022)، بمناسبة تولّيه رئاسة الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، قال أم. نايت شامالان إنّ أزمة السينما، في السنتين الأخيرتين، يتضافر فيها بُعدان: الجائحة، وتنامي تأثير منصّات العرض المتدفّق (ستريمينغ). وأوضح كيف أنّ هذه المنصّات صرفت ملايين كثيرة من الدولارات الأميركية لإنتاج محتوى والترويج له، ثم نادت الجميع: "هيا. الآن يُمكنكم مُشاهدة كل ما ترغبون فيه، من دون التزام، أو شراء تذاكر دخول". هذا بدا له مؤسفاً في البداية، قبل أنْ يخلص بعد تفكير إلى أنّ إغلاق القاعات "فرصةٌ برهنت كم أنّ تجربة المُشاهدة فيها لا تُقدَّر بثمن".
نقاش العلاقة المؤرقة بين عروض المنصّات والمُشاهدة في القاعات، في السنوات الأخيرة، يُطرح أيضاً اليوم، بشدّة وإلحاح، في المغرب، بمناسبة إطلاق منصّة "أفلام إن" للمُشاهدة المنزلية عبر النّت، بمبادرة من شركة "عليان للإنتاج"، المملوكة من المخرج نبيل عيوش، بواسطة "ستارت ـ آب غود فيلّوز". حفل الافتتاح، المُقام في صالة "لوتيسيا" الجميلة وسط الدار البيضاء ـ المكان نفسه يحمل رمزية كبيرة من منظور النقاش ـ كان فرصة للتعريف بنوايا هذا المشروع الطموح وأبعاده، إذ أشارت كنزة صفوان، المديرة العامة للمنصّة، إلى أنّ الإطلاق يأتي في سياق الثورة التي عرفتها السينما في العقدين الأخيرين، إثر تطوّر قنوات البثّ الرقمي، والأزمة التي يشهدها قطاع الاستغلال في المغرب، بسبب الغلاء النسبي للتذاكر، ومسلسل إغلاق القاعات، ما يحدّ من ذهاب الجمهور المغربي إلى سينماه. بالإضافة إلى الانعكاس الكارثيّ للقرصنة على مداخيل القطاع، من الإنتاج إلى التسويق.
المنصّة، بحسب صفوان، تجيب عن حاجة أساسية للمخرجين المغاربة، لتحقيق انتشار أوسع لأفلامهم، مع استهداف جمهور سينفيليّ توّاق إلى مُشاهدة أفلام مغربية، متوّجة بجوائز في المهرجانات، وأخرى من كلاسيكيات التراث السينمائي المغربي، بمواصفات وجودة تقنية مُرضية، وتوفير محتوى مرافق لها: لقاءات حصرية، مَشاهد مقتطعة في المونتاج، "ماكينغ ـ أوف". كلّ ذلك بواسطة عرض يتيح الولوج إلى محتوى حصري ومتجدّد للمنصّة، باختيار إحدى الوسيلتين: الاشتراك الشهري من دون التزام (45 درهماً مغربياً، نحو 5 دولارات أميركية)، أو تأجير الأفلام بالوحدة (20 درهماً مغربياً، نحو دولارين أميركيين).
سؤال يُطرَح: هل ستكون المنصّة مسماراً آخر يُدقّ في نعش الصالات السينمائية، أم أنّها ستشجّع جهود إعادة الاعتبار إلى الفرجة في القاعات المظلمة، عبر الترويج للسينما المغربية؟
يصعب تقديم إجابة حاسمة. لكنْ، هناك قناعة بأنّ عروض المنصّات لن تؤدّي إلى هجر القاعات، بالطريقة نفسها التي لم تتحقّق بها نبوءات إغلاق هذه الأخيرة بسبب دمقرطة التلفزة، ثم قنوات الـ"ساتل" وعروض الـ"كابل"، لأنّ التجربة أثبتت أنّ الفرجة المنزلية لا تُعوّض عن الحاجة إلى الخروج الجماعي في إطار عائلي أو حميمي، أو بين الأصدقاء، لمُشاهدة فيلم في الصالة. المُكوّن الثاني للإجابة ـ الذي يدعو إلى الاعتقاد بأنّ المنصّة ستصبّ في جانب الحلّ، أكثر من أنْ تصبح جزءاً من المشكلة ـ يتمثّل في أنّ أحد أهمّ أسباب ضعف إقبال الجمهور على الأفلام المغربية المتطلّبة في القاعات، واقتصاره على الكوميديا غالباً، ناتجٌ من ضعف إلمامه بميكروكوزم السينما المغربية، من تاريخها إلى نجوم التمثيل، مروراً بالمخرجين الذين يصنعون تألقّها في المهرجانات.
مثلاً: سيكون من البديهي أنْ يشدّ فيلمٌ جديد لهشام العسري أو فوزي بن السعيدي أو ليلى الكيلاني انتباه جمهور أكبر قليلاً، يعرف أيّ نوع من السينما ينتظره في القاعة، إذا ما ارتفعت نسبة المغاربة الذين سبق لهم أن شاهدوا فيلماً أو أكثر لهؤلاء المخرجين وغيرهم، حتى لو كانت المُشاهدة منزلية. هذا المعطى سيساهم في توطيد العلاقة بين السينما المغربية وجمهورها، بانتظار أنْ تؤدّي روافد الوعي بالثقافة السينمائية الأخرى، كالمدرسة والإعلام، دورها كما ينبغي.
عماد حفل الافتتاح كان عرضاً لشريط ترويجي قصير، عبارة عن مونتاج خلّاق للقطات من أفلام مغربية كلاسيكية وحديثة، يضمّها عرض المنصّة. بعده، ألقى نبيل عيّوش (الرئيس المدير العام) كلمة، قال فيها إنّ أولى لقطات الشريط مُقتطفة من "أحداث بدون دلالة" (1974) لمصطفى الدرقاوي، جوهرة فيلمية ظلّت مختفيةً عقوداً بسبب الرقابة والتهميش، قبل أنْ تُسفر الجهود مؤخّراً عن العثور على نسخة منها، تمّ ترميمها، ولاقت نجاحاً كبيراً في المهرجانات، لكنّها ظلّت مجهولةً لدى الغالبية الساحقة من الحاضرين في حفل الافتتاح، فما بالك بالجمهور المغربي العريض. بالنسبة إلى عيوش، تُجيب "أفلام إن" على سؤال مُلحّ طرحه هو نفسه، ويطرحه الجميع على المخرجين المغاربة: "أين يمكنني مُشاهدة فيلمك؟". تُصبح المنصّة ملجأ الباحثين عن مكان يجمع السينما المغربية بأطيافها: أفلام المؤلّف، أفلام سجّلت إقبالاً كبيراً في القاعات، وأخرى لم تسنح لها فرصة العرض في ظروف مؤاتية لملاقاة جمهورها.
تتيح عروض المنصّة، اليوم، الولوج إلى 60 فيلماً مغربياً، و12 فيلماً دولياً، و"100 فيلم عربي، إفريقي، فرنسي أو آسيوي، يتمّ حالياً اقتناء حقوقها"، مع رؤية تهدف إلى اقتناء حقوق عرض "جلّ الفيلموغرافيا المغربية" قبل نهاية 2024. تعد المنصّة بحماية المحتوى من القرصنة بفضل برامج ذات معايير هوليوودية، لخلق روابط قوية ومُستدامة مع المنتجين، وذوي حقوق الأفلام المغربية، قوامها سياسة اقتسام منصفة للمداخيل. كما يتعهّد الفريق بالاشتغال على برامج تكميلية (بونيس) لـ3 إلى 5 أفلام منتقاة شهرياً.
تجربة الإبحار في محتوى المنصّة سلسة ومبهجة إلى حدّ ما، مع تبويب يرتكز على نوع الأفلام، لا يخلو من غموض وهنات، كوضع "هُمُ الكلاب" لهشام العسري في باب "كوميديا"، بدل فئة "دراما".
يعتمد نجاح المنصّة (تتولّى ياسمينة تامر مسؤولية المقتنيات فيها) في إطلاق دينامية في قطاع السينما المغربية، مستقبلاً، على مدى توفّقها في خلق أدبيات مرافقة، ذات جودة فنية وجمالية عالية، تساهم في ملء الفراغ الكبير الذي تشهده مواكبة الأفلام المغربية الكلاسيكية والجديدة بالنقد والتحليل والترويج. كما أن وفاءها بالتزامها نهج سياسة منصفة لاقتسام المداخيل، ربما تتطوّر في المدى المتوسط إلى تمويل إنتاج أفلام ذات قيمة مضافة عالية، فنية وجماهيرية، تكمِل دعم الإنتاج من "المركز السينمائي المغربي"، عبر خلق سينما مستقلّة أكثر جرأة وأقلّ التزاماً بالقواعد، تضخّ جديداً في جماليات السينما المغربية، ما سينعكس لا محالة، إيجابياً، على الميدان.
هناك أيضاً مسائل خلاف وعتاب موجّهة إلى المنصّات المهيمنة ("نتفليكس" الأميركية مثلاً)، كتكتّمها على عدد المُشاهدات التي تسجّلها الأفلام ومدّتها، ينبغي على "أفلام إن" ألاّ تسقط فيها. لِمَ لا تعمل المنصّة، كذلك، على خلق شراكات مع صالات الأحياء في المغرب، خاصة المنخرطة في مقاربة عروض "فن وتجريب"، مثل صالة "لوتيسيا"، لمنحها أسبقية العرض لفترة معيّنة، تسبق العرض على المنصّة، مع إمكانية حضور المخرج وفريق العمل لنقاش الفيلم، وتغذية المحتوى التكميلي للمنصّة.