"أراضٍ من هنا، أراضٍ من هناك": مُزارعون يعانون متطلّبات العصر

14 اغسطس 2021
من الوثائقي "كامَغروغا" للإسباني ألفونسو أمادور (تويتر)
+ الخط -

يُمكن نعتها بأنّها ظاهرة في السينما الفرنسية خاصة، والأوروبية عامة: أفلامٌ تهتمّ، أكثر فأكثر، بعالم الزراعة، في السياق الحالي للعولمة. أفلامٌ تعكس هشاشة عالمٍ، المزارعون فيه هم، في أغلب الأحيان، ضحايا مُجبرون على الخضوع للنظام الاقتصادي السائد، بينما بوسعهم أنْ يكونوا المحرّكين لنظامٍ جديد للنموّ. سينما فرنسية وأوروبية تتابع عالماً زراعياً في حالة تحوّل: التصنيع، أو الزوال، أو الاستجابة لمعايير الاتحاد الأوروبي، أو البقاء على الهامش، والفشل.

أعمالٌ سينمائية تُنبّه على احتضار عالمٍ، ومحاولات إنقاذه وبعثه، بطرقٍ جديدة، تهتمّ أكثر بالمُنتج وأساليب إنتاجه. تلفت النظر إلى الأوضاع الصعبة والمعقّدة التي يعيشها المزارعون اليوم، بين سيطرة شبكات التوزيع الكبرى، ومعها المتاجر، على المنتجات الزراعية، والعلاقة مع المؤسّسات الإدارية الحكومية، المحلية والأوروبية المتطلّبة، حيث المزارع العائلية لم تعد تغطّي تكلفتها منذ انخفاض الدعم الأوروبي أيضاً. أوضاعٌ، تدفع مزارعين شبابا إلى الانتحار بسبب هول ما يُواجههم من مَشاق، نفسية وعملية وجسدية، في العمل الزراعي. بالنسبة إلى البعض، الوضع شاق أكثر فأكثر.

نائيل ماراندان مُخرج فرنسي، قال إنّه، في عام تصويره "أرض الإنسان" (2020)، انتحر ستة مزارعين ورعاة في منطقة التصوير، بسبب تراكم الديون عليهم، وبسبب إجراءات تحديث العمل، واضطرارهم إلى الاستدانة لمطابقة التشريعات الجديدة، وأمامهم أراضٍ واسعة حديثة، تُنظّم نفسها عبر التكبير والانقضاض على شراء المزارع الصغرى التي تُفلس حولهم.

في منطقة "دوردوين" الزراعية والسياحية (جنوب غرب فرنسا)، حدث لقاء بين سكّان قرية صغيرة، وهذا العالم السينمائي. أمرٌ ربما لا يُصادفه أحدٌ إلاّ في بلدٍ كفرنسا، حيث الثقافة شأنٌ يوميّ، والاحتفال بها عادة متأصّلة، والأزمات الصحية (وباء كورونا هنا) أو الاقتصادية، دافعٌ دائمٌ إلى مزيدٍ من التأمّل والتحدّي.

في "سانت فيلكس دوفيلادس"، وُلد مشروع إقامة مهرجان سينمائي صغير في عزّ الأزمة الصحية، في قرية لا تتمتّع بأيّ بُنى تحتية لاستقبال عروض سينمائية. تحدّ رائع ضد عوائق، وإصرارٌ مُدهش لمُنظّمته، بربارا لوريه دو لا شاريير، بمساعدة باستيان مييرسون، ومساهمة معظم سكّان القرية، جعلا النسخة الأولى لـ"أراضٍ من هنا، أراضٍ من هناك" (1 ـ 4 يوليو/ تموز 2021) لقاءً استثنائياً مع السينما، لشغوفين بالأرض والزراعة والمواشي. تظاهرة حملت معها محاور عدّة، إلى جانب السينما: أدب ومحاضرات وندوات حول العالم الزراعي، أثارتها مُشاهدة الأفلام، وكانت تماساً مباشراً للمزارعين مع أفلامٍ تُعنى بعالمهم.

12 فيلماً طويلاً، روائياً ووثائقياً، من أوروبا، وفيلم من منغوليا. بعضها شهد عروضاً أولى، وأخرى ستُعرض على الشاشات الفرنسية. أفلامٌ من الماضي والحاضر، تعكس تحوّلات لحقت بالزراعة، وتأثيرها على المزارعين والمستهلكين معاً، بأسلوبٍ سينمائي يشتغل على لغة بصرية، تبدي جمال الطبيعة وكنوزها، و"كادر" يخدم موضوعه. لكنْ، إذا انجذب صانع الفيلم، أحياناً، أكثر ما يلزم إلى هذا الموضوع، وتبنّيه كأنّه لا يستطيع التفلّت من جماله أو مأساته أو ظروفه، فإنّ تلك الأفلام نجحت في طرح قضايا محدّدة، ليست دائماً على هذا الوضوح للمُشاهد العادي. من جهة، هناك ظروف العمل في الحقل ومشاقه، وكلّ ما يدور حوله من علاقات إنسانية، عائلية ومجتمعية وبين الرفاق؛ ومن جهة أخرى، ما يُصيبه من تحوّلات في العالم المعاصر، جرّاء ضرورة الالتزام بمعايير جديدة مفروضة.

هناك أفلامٌ ذات رؤية مستقبلية، تَنبّه أصحابها، منذ ثمانينيات القرن الـ20، إلى الخطر المقبل، وبدء تحوّلات العالم الزراعي مع نظام الحصص، كما في الروائي الوثائقي "الأرض الواسعة" (1981)، للبلجيكي جان جاك أندريان، الذي يروي التغييرات ونزعات الشباب وحيرتهم أمام مصاعب الآباء، التي ربما تردعهم عن الاستمرار في الطريق نفسها، فيعيشون حياة جديدة، بعيداً عن المشاكل والخلافات. عام 2012، عاد المخرج إلى المنطقة نفسها، ليحقّق وثائقياً عنوانi "لقد أمطرت فوق الأرض الواسعة"، عن تقاليد فلاّحية مُهدّدة بالاختفاء، وبدأت بوادرها بالزوال. في الفيلم، لا إضاءة اصطناعية، حرصاً على راحة الأبقار، والتصوير اعتمد على نظرات تسعة مُزارعين لالتقاط مشاعرهم، وهم يحكون ما يؤرقهم، لا سيما خلال أزمة الحليب، والمعايير الجديدة المفروضة من الاتحاد الأوروبي.

سينما ودراما
التحديثات الحية

توارث العمل الفلاحي قضية تتكرّر في أفلامٍ عدّة، يبرز فيها ميلٌ مُدهش لدى بعض الأبناء إلى مُتابعة مسيرة الأجداد. الوثائقي "كامَغروغا" (2020)، للإسباني ألفونسو أمادور، قصيدة طويلة، أُخذ بها صانعها، فتسرّبت منه أحياناً، عبر متابعة طويلة لدوران الفصول في العمل والأرض. مقاومة أبٍ وابنة وحفيد، يتشاركون المهام في زراعة حبوب "عين النمر"، التي جلبها العرب إلى اسبانيا. في "فالانسيا"، على حوض المتوسّط، يواجهون ـ في العقود الأخيرة ـ مشاق الفلاحة وضغوطاً لشراء الأراضي الزراعية، إما لتشييد متاجر كبرى، لا أحد يحتاج إليها، وإما لتوسيع الطرق للسيارات.

في "الخلود" (2020)، للإيطالي غيسيب فالنتينو، هناك أبٌ وابن في جنوب إيطاليا، في إحدى آخر العائلات التي لديها حيوانات كثيرة تعيش في البرية، لا في حظائر مغلقة. ينقلان قطيع أبقارهما موسمياً، مرّتين في العام، وحياتهما دورات مرتبطة بمراعي حيواناتهما. لكنّ الأب يشعر بخيبة أمل، ويقلق كثيراً بشأن مستقبل ابنه، فحياته المهنية بين الجبال والسهول تقترب من نهايتها، بسبب القوانين الجديدة للرعي، التي ستحظّر ذلك.

في الأفلام قلقٌ وتساؤلات لا تنتهي، عن انتقال الأرض من الآباء إلى الأبناء، وعن استلام الأراضي من قادمين جدد، ليسوا من وسط زراعي. فلا تعداد لساعات العمل، ولا لساعات النوم، وهناك صعوبات عدّة وضغوط وتوتر حول النجاح في المهمة، وأحياناً عدم إدراك مسبق عن مدى تأثّر الزراعة بالطقس، إلى هذا الحدّ، فالعوامل الجوية يجب توقّعها وإيجاد حلول لها. تُضاف نواح إدارية، بعبئها المُرهِق إلى درجة لا تُصدّق. يبرز هذا، مثلاً، في الأفلام الروائية: البلجيكي "منتصف الأفق" (2019) لدلفين لهريسي، والسويسري "الريح تهبّ" (2019) لبيتينا أوبرلي، والإيطالي "الريح تدور" (2005) لجيورجيو ديريتّي.

هذا الأخير يتناول مسيرة راعٍ فرنسي، قرّر ـ بعد بناء محطة للطاقة النووية قرب حظيرة أغنامه ـ مُغادرة منطقته للاستقرار مع أسرته، في جبال الألب الإيطالية. يُرحِّب به وبأسرته رئيس البلدية، الذي يأمل أن يحفّز هذا الوصول الشبابَ على البقاء، وإحياء قرية تحتضر. لكنّ الجميع لا يتشاركون هذه الآراء، بسبب أساليب فيليب، وطريقة حياته وأغنامه التي لا تعرف حدوداً. هكذا يتزايد سوء الفهم في قرية صغيرة. ومع مشاق العمل وظروفه الهشّة، من كوارث طبيعية وأمطار وسيول وحرائق وجفاف، تبدو الأوضاع مستحيلة.

هناك من يدفع قلقهم من التغيّر المناخي إلى تساؤلات عمّا ينتظر أطفالهم من مستقبلٍ، كما في الوثائقي "رحلة إلى يوتوبيا" (2020) لإيرلند مو: سيرة المخرج وعائلته، ومُغادرة الريف النرويجي للعيش في قرية جماعية، تعتمد قوانين البيئة المُستدامة في الدنمارك. قرارٌ بالعودة إلى المبادئ الأصل، لإشباع حاجة إلى التواصل مع الطبيعة، والشعور بالمسؤولية تجاه الأرض، وتعليم الأطفال كيفية إنتاج "غذائنا بأنفسنا". لكنّ التأقلم حافل بتعقيدات غير متوقّعة، وبأسئلةٍ عن تضحيات للتوافق مع المثال، رغم مُلاحظة أنّ المشاكل النفسية للأطفال تتلاشى مع الاتصال بالطبيعة.

أفلامٌ تتعاطف مع شخصياتها، وتنحاز إليهم، وتدفع إلى الإدراك بأنّه لا يُمكن عمل هذه المهنة من دون شغف. هذا ليس ممكناً، بكل بساطة. تتبدّى مشاكل متشابهة في عالمٍ زراعي مضطرب، بعد زوال الأوهام بخصوص التطوّر والتقدّم التكنولوجيين. أليست السينما ذاكرة ورؤية مستقبلية، وانعكاسا للواقع، ونقله عبر السنين بلغتها الخاصة؟ "لا يُمكن فصل السينما عن الاجتماع"، يقول المخرج والسيناريست الفرنسي مارسيل كارنيه (1906 ـ 1996).

المساهمون