يُصنَّف الروائي الطويل الثاني للمصرية نادين خان، "أبو صدّام" (2021)، بكونه "فيلم طريق" (ترجمة عربية لنوعٍ سينمائي ابتكرته السينما الأميركية، نهاية ستينيات القرن الـ20: Road Movie). سمات هذا النوع تتمثّل بالتالي: شخصٌ، أو أكثر، يختار/يختارون الطريق حيّزاً للتحرّر من مساحة مُغلَقة، تُفرَض بالإكراه عليه/ عليهم؛ ثم بلوغ مكان/وُجهة/غاية غير معروفة مسبقاً. تنتهي الرحلة الطويلة، غالباً، بشكلٍ سيئ، من دون أنْ يكون الأمر ممنهجاً.
تفسيرٌ تقليدي، تتّبعه إنتاجات سينمائية كثيرة، معظمها أميركي. "أبو صدّام" يمتلك تفاصيل من هذا النوع، رغم أنّه يحتمل تفسيرات أخرى، فالتحليل النفسي للشخصية الرئيسية طاغٍ، عبر كلامٍ تقوله، وتصرّفات تمارسها، وتفكيرٍ يُلحّ عليها، ورغباتٍ مكبوتة، وضغوطٍ خانقة. أبو صدّام (محمد ممدوح) يقود شاحنته الكبيرة في طريق دولية (في مصر، أو ربما في أي جغرافيا أخرى). يُرافقه حسن (أحمد داش)، المُراهق المقترب من أوّل الشباب. الرحلة طويلة. التصوير (عبد السلام موسى) حاصلٌ في الشاحنة وحولها، وأمكنة قليلة خارجها، لوقتٍ قليل: مقهى/استراحة، طريق ترابية، بلدة صغيرة للمشاركة في عرسٍ يُقام فيها، منزل.
منذ اللحظات الأولى، ينكشف شيءٌ من تلك الضغوط. اتصال هاتفي يقول إنّ مشكلةً واقعةٌ، وعلى أبو صدّام حلّها باعتذارٍ، لكنّه سيرفض أنْ يعتذر، لاحقاً (اتصالات أخرى، مع أفرادٍ آخرين، تكشف أموراً كثيرة أخرى في حياته). الرفض والانفعال الغاضب كافيان لتعريته: متوتر جداً، فالدم يغلي في عروقه. هذا يستمرّ في مسائل أخرى: عائلته، أقارب زوجته، "فانتاسماته" الجنسية، اضطراباته الخاصة، ولبعضها علاقة بالجنس.
الميل النقدي إلى اعتبار "أبو صدّام" فيلماً نفسياً، من دون التغاضي عن مفردات "فيلم الطريق"، منبثقٌ من أداء رائع لمحمد ممدوح، الذي يمنحه جائزة أفضل ممثل، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 مايو/أيار 2022) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)". ممدوح متمكّن، كلاماً وحركةً ونظرات وملامح، من تقديم أبو صدّام، باضطراباته ومخاوفه وإحباطاته وغضبه وسلطته الذكورية. أداؤه يُخرج الشخصية إلى آفاق واسعة من المسالك المتخبّطة في عجزٍ، متنوّع الأشكال، يُثير فيها هذا الكمّ الهائل من الأحوال الضاغطة.
فيلمٌ نفسيّ، لن يُلغي التشويق. الرحلة تُزيل جدراناً تُخفي وراءها ما يُخفيه أبو صدّام. اضطراباته النفسية عاملٌ أساسيّ في تحديد سلوكه. استعادة ذكرياتٍ له مع امرأة، يلتقيها في الطريق نفسها ذات يوم، توحي بالتباسٍ قائمٍ بين حقيقة و"فانتاسمات". تحريضُ حسن له على اعترافاتٍ كهذه تُثير فيه أحد هذين الجانبين: عنفٌ لفظيّ ينتفض لكرامةٍ مجروحة أحياناً، وتساهل كلامي، مع ضحكٍ خفيف، أحياناً أخرى. كأنّ موافقته على الكلام تنصاع لرغبةٍ دفينةٍ في اعترافاتٍ، تعكس "براعته" في علاقاته النسائية، وتُشبع فيه نشوة الـ"أنا".
الضغوط، متنوّعة المصادر، تُحيل إلى اعتبار "أو صدّام" فيلماً نفسياً. التشويق المقصود يظهر بين حينٍ وآخر، في مطاردةٍ يقوم بها أبو صدّام، بعد انزعاجه من سيارة تُزمِّر بكثرة. يزداد انزعاجه/غضبه بعد اكتشافه أنّ سائقها شابّة، أي امرأة. يُصبح التشويق مساحةً سينمائية، تُبعد المعاينة النفسية قليلاً عن المشهد. المُطاردة نفسها تحيل، وإنْ للحظاتٍ غير متتالية (لقطات متباعدة تكشف فصولاً منها)، إلى "مبارزة" (1971) ستيفن سبيلبيرغ. لكنّ قِصر مدّتها، وكثافة النفسيّ واختلاف المناخ العام، كفيلةٌ كلّها بإلغاء الإحالة هذه.
حسن مُقبلٌ من بيئة فقيرة، تعاني ضغوطاً. هذا غير مُصرّح به مباشرة. لديه خطّة، يحاول تنفيذها مراراً، لكنّه يتراجع في لحظاتٍ مختلفة. يرغب في امرأة، إذْ له حبيبة (كما يعترف). يريد أبو صدّام، مواربة، مثالاً له، أو أباً، ربما. ضياعه بين تنفيذ المتّفق عليه مع صديقٍ ـ غير ظاهر البتّة، وغير ناطقٍ بصوتٍ هاتفيّ على الأقل ـ وعدم التنفيذ لأسبابٍ، لعلّ بعضها مرتبطٌ بتحوّل نظرته إلى أبو صدّام، بين لحظة وأخرى، من حالة إلى حالةٍ. ضياعه هذا جزءٌ من شخصيّته التي يريدها أنْ تتكوّن في طريق طويلة كهذه. حكاياتٌ متفرّقة، يرويها أبو صدّام له، تجعله ينجذب أكثر فأكثر إلى شخصيته، وإلى المهنة وعالمها. لكنْ، هناك دائماً ما يمنعه من ذلك.
جديد نادين خان (أول روائي طويل لها بعنوان "هرج ومرج"، 2012) مُثيرٌ للاهتمام. قراءته نقدياً غير مكتفيةٍ بقليلٍ من الكتابة. مُشاهدته ممتعة، وهذا أساسيّ. المتعة سينمائية، مع أنّ النصّ البصريّ يعاين أحوالاً موغلة في القسوة والتمزّقات والألم والقهر، كما في المتاهة (في الذات والروح أولاً وأساساً). اشتغالاته الفنية والتقنية ـ كالمونتاج (ماهر رشيد) والموسيقى (شريف ثروت) والصوت (تصميم الصوت والميكساج: أحمد جابر. هندسة الصوت: سماح جمال) ـ تؤدّي إلى فيلمٍ متماسك درامياً، وفاضح نفسياً، وقادر على توغّل بصريّ، حيوي وعميق، في ذاتٍ وروحٍ وعلاقاتٍ.