نيويورك سفدي بكاميرا خوندجي: تكثيف سينمائي للتوتر

10 فبراير 2020
آدم ساندلر: توتر وضغوط وتحدّيات (من الفيلم)
+ الخط -
هاورد راتنر (آدم ساندلر) غير هادئ البتّة. متوتر وقلق دائماً. مُنشغلٌ بأمور كثيرة، يظنّ أنّ بعضها خلاصٌ له من مآزق بعضها الآخر. يُطارد أحلاماً تنكشف لاحقاً ككوابيس تهزّ كيانه وروحه. كثير الكلام والشتم، كأنّه غير قادر على العيش من دونهما. له عائلة (زوجة و3 أولاد)، وأقارب ومعارف. له عشيقة أيضاً، تُقيم في منزلٍ خاص به. يملك محلاًّ لبيع المجوهرات، وينتظر ـ بشغفٍ وارتباك ـ وصول مجوهرات من نوع "أوبال"، يُدرك بطريقة ما أنّها موجودة في منجمٍ في إثيوبيا. يُجري فحصاً طبّياً، كي يتأكّد من عدم إصابة "القولون" بمرضٍ سرطانيّ، وعند التأكّد من ذلك يقول لطبيبه: "أنتَ تعرف مسألة القولون والسرطان، ويقولون إنّنا (يقصد اليهود) شعب الله المختار". يتورّط في أفعالٍ خاصّة بعصابات، ويلتقي رياضيين يُقنعهم بشراء ما لديه، قبل أنْ يجد نفسه في دوائر خانقة، يفشل كلّياً في التحرّر منها. لعنة "أوبال"، خصوصاً بعد حصوله على حجرٍ منها، تُحكِم قبضتها عليه، فيريد فكاكاً منها، لكنّ النتيجة غير متوافقة مع آخر لحظة فرحٍ له، إذْ يظنّ أنّ فوز فريق كرّة السلّة الأميركية، بقيادة "صديقٍ" له هو اللاعب كيفن غارنت (يؤدّي غارنت نفسه الدور)، سيكون خلاصه المنتظر.
يختار الأخوان الأميركيان بَنِي وجوشوا سفدي شخصية اليهوديّ هاورد راتنر نواة درامية لجديدهما "مجوهرات خام" (Uncut Gems)، الذي تبثّه المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 31 يناير/كانون الثاني 2020، بعد عرض أميركي محدود في 13 ديسمبر/كانون الأول 2019. علماً أنّ الدورة الـ49 (30 أغسطس/آب ـ 2 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان تالّوريد السينمائي (كولورادو)" تشهد عرضه الدولي الأول. البيئة يهودية، في "مدينة المجوهرات" في نيويورك. هناك صفقات واحتيال ومراهنات ورهونات. أموالٌ تتدفّق، ثم تختفي. هاورد راتنر مَدينٌ لزوج شقيقته آمو (إيريك بوغوصيان) بـ100 ألف دولار أميركي، فيُرسل آمو رجلين إليه لاسترداد المبلغ. عندها، تبدأ رحلة البحث عن خلاصٍ مرتجى، لكنّه مؤجّل، وربما غير آتٍ.

البداية في إثيوبيا، خريف عام 2010، حيث يعثر عاملان اثنان على حجر "أوبال"، فيسرقانه. مباشرةً، تنتقل كاميرا داريوس خوندجي إلى "قولون" هاورد راتنر (ربيع 2012). ثمّ يستلم صاحب محلّ المجوهرات طرداً يحتوي على المجوهرات المنتظرة، فيتحمّس الرجل كثيراً، ويُخبر صديقه غارنت عنها، فيُسحَر الرياضيّ بها، ويُلحّ على استعارتها ولو لليلة واحدة، كتعويذة تساعده على الفوز بمباراة حاسمة في الليلة نفسها. تزداد الأزمات، وتتلاحق المطاردات، وتتفاعل الأحداث، فالمجوهرات "تائهة" في مكانٍ ما، والرهونات ترتفع، والمراهنات أيضاً. كاميرا خوندجي تساهم في إثارة التوتر، الذي يُتقن آدم ساندلر تأديته، كيهوديّ مهمومٍ بخلاصٍ غير واضحة معالمه. لعبة الإضاءة إضافة بصرية لجماليات الـ"كادر" واللقطات القريبة. المونتاج (رونالد برونشتاين وبَنِي سفدي) يُضاعف ضغط الحالة، واضطراب الشخصية، وتكثيف الانفعالات، وبلورة مسار تصاعديّ للتوتر والصدامات. السيناريو (بورنشتاين والأخوان سفدي) يرتكز على سماتٍ تعتادها أفلام الأخوين، خصوصاً تلك اللحظة التي تقود الجميع في مسارات مختلفة ومتناقضة ومتصادمة، قبل أنْ تدفع كلّ واحد منهم إلى جحيمه الخاص.

رغم وفرة الشخصيات، وبعضها عابر جداً لكنّه مُسبِّب لتوتر أو لانتقال أو لتهدئة عابرة، يبقى هاورد راتنر حاضراً في التفاصيل كلّها. الكوميدي آدم ساندلر بارع في اشتغال درامي، لن يخلو من سخرية وإضحاكٍ مرير. ملاحقة "أوبال" في ليالي نيويورك، بإضاءة داريوس خوندجي وتصويره الذي يُفكِّك الذات والروح معاً، تُشبه نزولاً إلى جهنّم، لاغتسالٍ بطيء فيها. لكنّ المأزق أن هذا غير نافعٍ، فجهنم نفسها مليئة بألغامٍ تتوالى انفجاراتها، وراتنر سيكون أكثر المتضرّرين بسببها.

في تمثيله، يمزج آدم ساندلر، المولود في نيويورك عام 1966، بين عمق الدراما الفردية وسلاسة الكوميديا المبطّنة. خارج أعماله الكوميدية البحتة، يحافظ على تلك الروح الساخرة في تأديته أدوار أفرادٍ، يُفترض بالحياة أنْ تحطّم أرواحهم وانفعالاتهم وحيواتهم، فيصارعون من أجل بقاء مؤقّت. بعض تلك الأدوار تمنح للأفراد فرصاً لاكتشاف سبل النفاذ، لتسوية أو تنازل، وإنْ يغلُبُ التعنّت، يكون الموت نتيجة. مع بول توماس أندرسن، يُمثّل مرّتين: أولى عام 2002 في Punch-Drunk Love، وثانية عام 2003 في Blossoms And Blood. قبل 3 أعوام، يُشارك في "قصص ميروفيتز" (2017) لنواه باومباخ. هذه أمثلة قليلة عن تمثيلٍ درامي مُطعّم بسخرية مريرة، فلائحة أعماله السينمائية مليئة بأفلامٍ يندر فيها مزيج الدراما و"الكوميديا السوداء"، إنْ يصحّ وصف أدوار له بتعبيرٍ كهذا.

"مجوهرات خام" إكمالٌ لنمطٍ يُتيح لآدم ساندلر متابعة شغفه التمثيلي، المتحرّر من بساطة الكوميديا، وبعض نتاجاتها عاديّ، أو أقلّ من عاديّ. كما أنّه إكمالٌ لتجربة الأخوين بَنِي وجوشوا سفدي في صُنع سينما، تُبنى على عنفٍ داخلي ينفجر ببطء في الفرد، وفي علاقاته المختلفة. فيلمهما السابق مثلاً، "غود تايم" (2017)، مشحون بسماتٍ عديدة تحضر في جديدهما الأخير: توتر وكلام كثير وشتائم ومطاردات وغرق في جحيم اليوميّ، ومتاهات غير منتهية في أزقّة ومدنٍ ونفوس، تنبثق (المتاهات) من حدثٍ بسيطٍ (أو يبدو كأنّه بسيط) في لحظة عادية (أو تبدو كأنّها عادية). هذا غير مُكتمِل من دون فعل القتل، الذي يحصل في لحظة غير متوقّعة، رغم أنّ حضوره طاغٍ منذ اللحظات الأولى.
المساهمون