الأعراس في اليمن: أيّامٌ من نار

23 يناير 2020
قبل الحرب ازداد الوعي حول هذه الظاهرة (كمال البنا)
+ الخط -
جرت العادة في اليمن أن يحتفل الأهالي بالعريس في أجواء محاطة بالنار، ليست نار الحرب المستعرة منذ خمس سنوات، بل نار التعبير عن مدى سعادتهم وفرحتهم، من خلال إطلاق الرصاص في الهواء بشكل عشوائي لساعات وأيام.

حينما حلّت الإجازة الصيفية لعام 2016، عدت إلى القرية، كنت حينها طالبًا جامعيًا. تزامنت الإجازة مع عرس أحد زملاء المدرسة، وكان عليّ الحضور لمشاركته فرحته، حيث أصرّ والدي على أن آخذ معي سلاح الكلاشنكوف معي حتى لا أبدو أقل شأنًا من غيري أو متأثرًا بالمدنيّة، وكان عليّ أن أطلق الرصاص في الهواء لأثبت لوالدي تمسّكي بالعادات والتقاليد التي يجب أن نرثها بكل عيوبها.

لم أكن وحدي من فعل ذلك، إذ إن العشرات ممن شاركوا العريس فرحته أخذوا يوزعون فوهات بنادقهم في كل الاتجاهات، ومثلهم يفعل مئات الآلاف من اليمنيين في 22 محافظة، لا تزال تتمسك بهذه التقاليد رغم كارثية نتائجها التي تصل إلى القتل في بعض الحالات، أو الإصابة بجراح قد تسبب الإعاقة الدائمة.

في الحرب وفي السلم
يرى الصحافي والناشط اليمني مجدي عقبة أن الظاهرة أصبحت جريمة يتحمل مسؤوليتها المجتمع والدولة معاً، لأنها لم تختف بعد، رغم المبادرات المجتمعية للقضاء عليها أو على الأقل تقلصيها. يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "نجدها في أوقات الحرب تزداد عن الظروف الطبيعة، وهذا يرجع لعدة أسباب، منها ضعف الدولة، بل وتلاشيها في وعي المواطن، إضافة إلى العلاقة التي تربط اليمني بالسلاح سواء في أوقات الحرب أو السلم".

لا يقتصر إطلاق النار في الأعراس اليمنية على يوم واحد، بل يستمر لأيام؛ ففي تحديد موعد العرس يطلق الرصاص، وفي وصول أول ضيافة (يهدى عادة رأس خروف أو ثور)، ويوم الحناء يطلق النار، وعند إرسال جهاز العروس ويوم العرس وتاليه، وفي بعض الأحيان للتباهي بإتمام دخول القفص الذهبي.

عادات لا يراها اليمنيون غريبة في بلاد تنتشر فيها ما يزيد على 60 مليون قطعة سلاح ما قبل الحرب، وهو معدل قابل للزيادة في ظل التعزيز المستمر من قبل التحالف للقوات والفصائل التي تقاتل في صفه، وبعد الاستيلاء على مخازن القوات المسلحة وإخراج ما بداخلها وتوزيعه على الأطراف الداخلية.

لكنها عادة ما تتحول إلى كارثة، تضيف مأساة إلى مآسي الحرب، وتحوّل الفرحة إلى عزاء أو مصيبة، إذ تشير التقارير الرسمية إلى أن حالات الوفاة من جراء إطلاق الرصاص في الأعراس تصل إلى 30 وفاة وما يتجاوز 200 إصابة، في العام الواحد. ورغم عدم وجود إحصائية رسمية بعدد الضحايا خلال العام 2019، إلا أن تقارير وزارة الداخلية في صنعاء تشير إلى وقوع سبع حالات وفاة و30 حالة إصابة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2018.




محاولات رسمية
وزارتا الداخلية في كل من صنعاء وعدن أصدرتا قرارات بحظر إطلاق الرصاص في الأعراس ومعاقبة المخالفين، وتضمنت العقوبة سجن العريس أو أحد أقاربه مدة لا تتجاوز الشهر مع غرامة مالية تصل إلى 100 ألف ريال (الدولار يعادل 570 في صنعاء و630 في عدن)، وهي عقوبة يراها مدير مركز الإعلام الأمني بوزارة الداخلية في حكومة الحوثيين، نجيب العنسي، غير كافية وبحاجة إلى أن تتخذ قيادة وزارة الداخلية قرارًا بمضاعفتها.

يقول العنسي: "هذه ظاهرة خطيرة، والظواهر الاجتماعية لا تنتهي لمجرد صدور قرار بمنعها، بل تحتاج إلى توعية واسعة، وقرار المنع يساهم فقط في الحد منها"، ويضيف لـ"العربي الجديد": "التوعية مطلوبة من قبل وسائل الإعلام كافة، إلى جانب وزارتي التربية والأوقاف، ومنظمات المجتمع المدني، حيث يمكن لذلك، إذا ما تم، أن يساهم في اختفاء هذه الظاهرة، أو على الأقل الحد منها بشكل كبير".

من جانبه، يشير الناشط عقبة إلى أن الوعي كان قبل الحرب قد وصل إلى مستوى متقدم تجاه هذه التقاليد القاتلة، بل وصل إلى الحد من ظاهرة انتشار السلاح بشكل عام، وتعدى ذلك إلى توقيع مواثيق قبلية (القبيلة أساس الحكم في اليمن) بمباركة رسمية لمنع إطلاق الرصاص ومعاقبة المخالفين بالإضافة إلى اللوم الذي يتلقاه المخالف من المجتمع، مضيفاً: "كل ذلك ساعد في التقليل من هذه الظاهرة بشكل كبير إلى أن جاءت الحرب وسقطت الدولة، وهو ما ولّد شعوراً لدى المواطن بأن لا غنى له عن حمل السلاح لحماية نفسه".


يسمح بإطلاق الرصاص
في تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، أصدر الحوثيون آخر قرار بمنع إطلاق الرصاص في الأعراس، جاء ذلك متزامنا مع إلقاء القبض على 22 متورطاً في صنعاء وحدها، وبعد إصابة امرأة في الـ56 من العمر برصاص طائش اخترق رأسها، ونقلت على أثرها إلى المستشفى الذي أكد خطورة الحالة، ولم ترد أي معلومات عن تماثلها للشفاء أو وفاتها.
ورغم التحذيرات المستمرة من قبل الأجهزة الأمنية، إلا أن اليمنيين يرون الظاهرة جزءًا من هويتهم، رغم انتشارها في أكثر من بلد عربي، لكنها ليست بالمستوى الذي هي عليه في اليمن؛ حيث يمارسها كل من هو قادر على حمل السلاح، بمن فيهم الأطفال، وغالبًا ما يكون ضحاياها العرسان أنفسهم، إذ تنتهي بهم الفرحة في زنازين أقسام الشرطة، رغم أن الضيف هو الذي استخدم السلاح.
يقول العنسي: "الجميع يعلم أن إطلاق النار في الأعراس والمناسبات فعل إجرامي، وغير أخلاقي، ويتنافى مع السلوك السوي، ولا عذر لأحد، ولذلك يجب على من يقيم عرساً إخبار كل ضيوفه بعدم إطلاق النار، وهم لن يخالفوا طلبه، والشرطة ستلقي القبض على الشخص الذي يطلق النار، وإذا لم تجده فعلى صاحب العرس إيجاده، لأنه المسؤول أمام الشرطة". رغم ذلك، تدوّن ملاحظات في بعض دعوات الزفاف مضمونها "يسمح بإطلاق الرصاص"، أو "يمنع إطلاق الرصاص".


ضرورة قانونية
تقول المحامية جهاد صلاح الدين إنه إلى جانب كون الظاهرة قاتلة، هي في الأساس فعل سيئ، وتشكّل مصدر قلق للسكان، خاصة الأطفال والنساء، الذين يرعبهم سماع دوي الأسلحة، حيث في بعض المناطق القروية تستخدم الأسلحة المتوسطة، كمضادات الطيران والرشاشات. وتضيف في حديث إلى "العربي الجديد"، إن الجانب القانوني لا يزال يشكل عائقاً أمام الحد من انتشارها، وهي بحاجة إلى قانون صارم يلزم الأهالي بالامتناع عنها ويعاقب المخالفين بحيث تكون العقوبة رادعة.

فيما يرى عقبة أنه لا بد من التكاتف بين المجتمع والدولة لخلق وعي شعبي بخطورة هذه المظاهر وفرض عقوبات وإيجاد بدائل تمكن الإنسان من التعبير عن فرحه وسروره.
وغالبا ما يكون مخالفو هذه القوانين من الشخصيات الاعتبارية والمشائخ والمسؤولين الذين لهم نفوذ في الدولة ويمتلكون المال الكافي لشراء الذخيرة. يقول عقبة إن "على المسؤولين في الدولة والمشائخ القبليين وكل من له سلطة أو نفوذ الامتناع عن إطلاق الرصاص ليكونوا قدوة لغيرهم".



تستمر الحرب في اليمن في الوقت الذي يستمر فيه انتشار الأسلحة وارتفاع منسوب الجريمة، إلى جانب تفاقم مشكلة الجهل وقلة الوعي والعبث بالقوانين من قبل المواطن والدولة معاً، وفي الوقت الذي يتمسك فيه اليمنيون بهويتهم الثقافية وتقاليدهم الموروثة حتى وإن كانت قاتلة.
المساهمون