اجتمعت للشيخ طه الفشني أسباب كثيرة، أهلته لأن يكون أحد أهم أركان مدرسة الإنشاد الديني المصرية، وأحد أبرز المنافسين على المرتبة الأولى في تاريخ هذا الفن العريق، وأن يكون ضمن الثلة العبقرية التي جمعت بين التلاوة والإنشاد باقتدار بالغ. كغيره من أعلام التلاوة والإنشاد، حفظ الشيخ طه القرآن وهو صبي لم يجاوز عشر سنوات، ثم تخرج في مدرسة المعلمين، وكان والده يأمل أن يصبح ابنه قاضياً شرعياً. وبالفعل، غادر الشاب الصغير بلدته الفشن في محافظة بني سويف إلى القاهرة للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعي، إلا أن أحداث ثورة 1919 حالت بينه وبين إتمام غايته، فعاد إلى بلدته، ووقتها، لم يكن أحد يعلم أن هذا الفتى سيكون أحد أهم رواد الإنشاد الديني، وأنه يمتلك صوتاً مفرط العذوبة. في مسقط رأسه، نشط في ميدان تلاوة القرآن والإنشاد حتى ذاع صيته في القرى والمراكز المجاورة. لم يقنع الفشني بالبقاء في مسقط رأسه، وظل أمل الانتقال إلى القاهرة يلوح أمام ناظريه، إلى أن عزم أمره وعاد مرة أخرى ليلتحق بالجامع الأزهر بغرض دراسة علوم القراءات التي تلقاها على يد الشيخ عبد العزيز السحار، لكن المدرسة الكبرى التي تعلم فيها الفشني تمثلت في بطانة الرائد الفني الأكبر الشيخ علي محمود.
مع علي محمود
كان فن الإنشاد يمر بمرحلة ازدهار، ولم يكن هناك مكان إلا للمواهب الفذة، والأصوات القديرة، وكانت الجماهير تفتتن بأداء علي محمود الساحر، وتعامله المحكم مع فرقته، لكن موهبة طه الفشني أتاحت له مكاناً ليكون عضواً ببطانة الشيخ علي، التي أخرجت لمصر عدداً من أعلام الموسيقى والغناء، على رأسهم الموسيقار زكريا أحمد. أتاح الانضمام إلى بطانة علي محمود فرصة عظمى للفشني لينهل من أسرار الفن والطرب والمقامات الموسيقية، وسبل الانتقال بينها بيسر واقتدار، كما نهل من طرائق محمود في الارتجال، وإطراب الجمهور، ثم تمهيد المسار النغمي لدخول البطانة التي تردد لحنا صارما محكما دون تعثر أو نشاز.
مثّل عام 1937 محطة هامة في مسيرة طه الفشني، فقد أتاح له الشيخ علي محمود أن يجلس مكانه، ويقرأ القرآن في محفل كبير بحي الحسين، وكان من بين الحضور سعيد باشا لطفي رئيس الإذاعة وقتئذ، وأدى الشيخ طه تلاوته أداء مبهرا، فلما انتهى من القراءة أقبل عليه سعيد باشا مثنيا ومشيدا، وطلب منه ضرورة الالتحاق بالإذاعة ليصافح صوته آذان المستمعين في كل مكان، وليكون ثالث قارئ تتعاقد معه الإذاعة بعد الشيخين الكبيرين محمد رفعت وعبد الفتاح الشعشاعي، وقدرت لجنة الاستماع صوته بأنه قارئ من الدرجة الأولى الممتازة، ومن يومها، عرفت الجماهير العريضة هذا الصوت النادر، واشتهر الشيخ طه باعبتاره أحد القلائل الذين جمعوا بين تلاوة القرآن والإنشاد الديني، مع تفوق عظيم في الفنين. لم تكن بطانة علي محمود هي المكون الفني الوحيد لطه الفشني، فقد تتلمذ الشاب الموهوب على يد الموسيقي الكبير الشيخ درويش الحريري، فنهل من علم المقامات، وأفانين الطرب، وفي مرحلة مبكرة من عمره، طلبت منه بعض شركات الاسطوانات تسجيل أغنيات عاطفية، وبالفعل سجل الشيخ طه غناءه على اسطوانتين، لكنه سرعان ما عاد إلى التلاوة والإنشاد ليكون أحد أعلامها الكبار المبرزين. ومع صعود نجمه، وإجماع النقاد على عظمة صوته، دعي الشيخ الفشني للقراءة في القصر الملكي خلال شهر رمضان، ورافق المقرئ الكبير مصطفى إسماعيل في التلاوة بقصر عابدين بالقاهرة، وقصر رأس التين بالإسكندرية.
صوت مقتدر
امتلك الشيخ الفشني صوتا عظيما وحنجرة نادرة، وكان قادرا على أداء أصعب القصائد وأعقد الألحان في سلاسة وجزالة وطرب، ويرى عدد من الباحثين الموسيقيين أن صوت الفشني يشغل مساحة ديوانين موسيقيين (أكتافين)، كما أنه امتلك القدرة على التطريب بكل درجات صوته، سواء في الدرجات الخفيضة (القرار) أو الوسطى أو العليا (الجواب).
ترك الشيخ طه الفشني ثروة فنية كبرى من تسجيلات التلاوات القرآنية، بروايتي حفص عن عاصم وورش عن نافع، وهو قارئ متميز بلونه الخاص، وأسلوبه الفريد، ورغم قدر من التأثر بتلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل، إلا أن للفشني طريقته التي يصعب تقليدها، فهو من القراء الذين لم يستطع أحد أن يقلدهم أو يقتفي أسلوبهم في التلاوة. أما كنز الفشني الأكبر، فيتمثل في تسجيلاته من التواشيح والابتهالات والقصائد، فبعد رحيل الشيخ علي محمود، أصبح الفشني النجم الألمع في عالم الإنشاد، تكتظ المساجد والسرادقات بجماهير المتعطشين للاستماع إلى صوته وفنه.
وقد وصلنا بصوت الفشني عدد كبير من القصائد الصعبة الرصينة، منها: ألا زعمت ليلى بأني أحبها، يا سرحة بجوار الماء، إلهي أنت للإحسان أهل، بشراك يا نفس إن الصوم زكاك.. كما وصلنا عدد من تواشيحه مع البطانة، ومنها: يوم أغر وليلة غراء، ترنّم يا شجي الطير، لي فيك يا أرض الحجاز حبيب، ميلاد طه أكرم الأعياد، اسقني في الحان راحي.
أيها المختار
ومن أهم التسجيلات التي خلفها الفشني، تأتي قصيدة يا أيها المختار، التي أنشادها الشيخ بين الجماهير في مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، وهي قصيدة من نظم الشيخ المقرئ الحافظ ندا علي ندا، ومطلعها: يا أيها المختار من خير الورى.. خُلقا وخَلقا في الكمال توحدا.. وأما اللحن فللموسيقار والمطرب الشيخ مرسي الحريري، تلميذ الموسيقي المؤرخ كامل الخلعي، والموسيقي المرجع الشيخ درويش الحريري.
وفي هذا العمل، تنطلق البطانة باللحن من مقام البياتي، في تماسك مدهش عرفت به بطانة الفشني، ثم يدخل الشيخ بصوته بالغ الرقة ليصول بجمل ارتجالية، وهو ما سيفعله خلال القصيدة كلها: تنشد البطانة الأبيات باللحن الموضوع مسبقا، ثم يكررها الفشني أو أجزاء منها ارتجالا، ثم يسلم للبطانة تسليما سلسلا عبقريا.
ويواصل الفشني تبادل الدور مع البطانة إلى أن يبلغ إحدى أهم المحطات في القصيدة، وهي عبارة "نادت بك الرسل الكرام"، حيث يؤدي لفظة الكرام أداء طربيا بصيغة تستجمع كل ما في البياتي من شجن وأنس، ليرتج الجمهور المحتشد في مسجد الحسين بالهتاف والاستحسان. ومع عبارة "لا يحصي فضلك ناثر أو كاتب عددا".. يطلق الفشني لحنجرته العنان مع آهة تحمل الحرقة واللوعة وباهتزازات سريعة لأوتار حنجرته، ثم يتخافض ليصل إلى طبقة التسليم.
ويقدم في عبارة "يا غوث الندى" نموذجا رائعا لما نسميه القفلة بالتلاشي.. فبعدما كان يكرر لفظة النداء يا، يا،.. انتهت هذه الياءات إلى آهة خفيضة مناسبة تمام المناسبة للتسليم إلى البطانة. وعند "عبارة يا نجم الهدى"، ولا سيما في إعادتها، يمسك الرجل بحبال مقام السيكاه، ويستخدم المناطق الحادة في صوته، كما يستخدم ذبذباته السريعة، ويقدم قفلة من النوع "الحراق" المطرب، الذي لا تملك معه الجماهير إلا التعبير بصيحات الإعجاب العالية، عما غشيهم من الطرب والسلطنة.
لقد اختزن طه الفشني خبرات كبيرة حصلها بالتتلمذ على يد إمام المنشدين الشيخ علي محمود، ثم أضاف إلى تلك الخبرات محصولا نغميا ضخما عبر الممارسة اليومية وإحياء الليالي والمحافل في القرى والنجوع، بالتلاوة وإنشاد القصائد والتواشيح والموالد، بصحبة بطانة منتقاة.
وقد تعامل الفشني مع عدد من كبار الملحنين، الذين رأوا فيه طاقة صوتية غير اعتيادية، ومقدرة على النهوض بأفكارهم الموسيقية، وعلى رأس هؤلاء الشيخ زكريا أحمد، ومرسي الحريري، وسيد شطا.. كما أدى الفشني بالطبع أعمالا من تلحين المشايخ علي محمود، ودرويش الحريري، ومحمود صبح، وإسماعيل سكر، وغيرهم من الأعلام.
وكان الفشني مؤذنا بارعا، وعقب رحيل علي محمود، أصبح الشيخ طه كبير مؤذني مسجد الحسين، ومن حسن الحظ أن وصلتنا عدة تسجيلات لأذانه بمقامات البياتي والحجاز والراست.
ارتجال المتمكن
ومن المؤكد أن التسجيلات التي وصلتنا للفشني -ورغم عظمتها- لا تعطي الحقيقة الكاملة، فأطولها لا يتجاوز نصف الساعة، بينما كان الرجل ينشد القصيدة في مدة تتجاوز أحيانا 4 ساعات متصلة، ومن نوادره الطريفة المشهورة في هذا المقام، أنه أحيا محفلا بمدينة ديروط بأسيوط، وبينما هو يؤدي مقطعا من إنشاده، فوجئ بعمدة ديروط يقسم عليه بالطلاق أن يظل يردد نفس المقطع حتى مطلع الفجر، ولم يجد المنشد الخلوق بدا من الاستجابة، فظل يردد المقطع موظفا قدرته الكبيرة على الارتجال والتلوين النغمي. نال فن الشيخ طه الفشني اهتمام كل محبي التراث، وحصلت الباحثة رحاب الشربيني على رسالة الدكتوراة من جامعة المنصورة عن صوت وأسلوب وأداء الفشني، وخلصت في رسالتها إلى أن الشيخ تمكن من أداء الكثير من التنويعات النغمية، وأساليب الإنشاد، مع القدرة الفائقة على الحفاظ على طول النفس، والتحكم فيه، وتوزيعه بدقة شديدة، وبرع في التنقل بين منطقتي القرار والجواب، وامتاز بعفق النغمات الموسيقية والقفلات المحكمة.
ولد الشيخ طه مرسي الفشني عام 1900، ورحل عن دنيانا صباح 10 ديسمبر 1971، وبين ميلاده ورحيله كانت رحلته الفنية المبهرة، ومن معالمها المهمة أنه عُين قارئا لجامع السيدة سكينة سنة 1940 حتى وفاته، واختير رئيسا لرابطة القراء خلفا للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي عام 1962، ورغم توالي العقود على الرحيل، يظل صوت الشيخ الفشني مقصدا رئيسا للمتعة الفنية والروحية.