إيلي معلوف... كلّ هذا البيانو

05 اغسطس 2018
إيلي معلوف (فيسبوك)
+ الخط -
- إيلي معلوف، اللقاء الحقيقي نصله عبر الطريق الأكثر تعقيداً، هل تعتقد بأن الصدفة هي التي جمعتك بالبيانو، أم أنّ اللقاء كان بديهيًّا لا يحتمل الشك؟
* أعتقد بأن اللقاء الحقيقي هو الأكثر بساطة، حيث إنّ مسار الحياة يأخذك صوبه. ناداني البيانو قبل أن ألتقيه. كان وجوده من حولي نادرًا، سمعته عبر التسجيلات والرّاديو، وأتذكر كيف كان يجذبني خلال طفولتي عبر أغاني الرحابنة، حتى تلك التي ليس له دور أساسي فيها. أتذكر أنّ أول لقاء بيني وبينه كان في المدرسة. كان هنالك بيانو قديم ملمسه قاسٍ. خفت أن يكون هذا هو ملمس آلة البيانو فعلاً! المشاكل الميكانيكية التي كانت موجودة في آلات البيانو من حولي جعلتني أهتم بتصليحها، وذلك بالاعتماد على مجهودي الشخصي وبمساعدة كتاب وصلني من بلجيكا؛ ما سهّل كسر الحاجز بيني وبين الميكانيك المعقد لهذه الآلة. وبعمر السادسة عشرة، حصلت أخيرًا على أول بيانو يخصني، خلال تلك الفترة تبلورت فعلًا العلاقة بيننا وأخذت مسارًا مختلفًا هو الذي حدّد مصيري اليوم.


- يقال إنّ الطفل هو الكائن الوحيد القادر على الاندهاش، هنا الطفولة هي حالة استثنائية من النقاء والحساسية الفائقة، نظرتك إلى البيانو تجعلنا نحسّ بأنك تراه للمرّة الأولى؛ إلى أيّ درجة تحتفظ بالطفل داخلك لتعيش هذه الدهشة وأنت تجلس قبالته؟
* أربط فعلًا الدهشة بالبراءة والنقاء اللذين يعتبران أهمّ مكونين لشخصية الطفل. أشعر بأنه كلما تقدم بي العمر زادت دهشتي بسحر هذه الآلة. بعد كلّ هذه السنوات، لا أزال أتساءل من أين ينبع نغمها وكلّ هذا الإحساس الذي يسكنها. البيانو آلة غريبة، إن صحّ التعبير، فهي تجمع بين الجانب الميكانيكي المعقد للغاية وبين إحساس عميق وعال. أحياناً، خلال عزفي، يعتريني شعور قوي بالدهشة فأقول: يا إلهي، ما أجمله! وأعتقد أنّ هذا الشعور بالدهشة ضروري ليظلّ الإنسان في حالة عطاء دون ملل.


- البيانو من الآلات التي تمتلك درجة عالية من الهيبة، حضوره يخلق جواً من الرهبة بالنسبة للعازف والمستمع؛ كيف استطعت رفع الكلفة بينك وبينه بهذا الشكل لنشعر بأن الآلة تخضع لك بشكل تام؟
* أشبّه اللقاء مع البيانو بالاجتماع بشخص مبهر، في اللحظات الأولى يشعرك وجوده بالرهبة والخوف من الخطأ، فتفتقر تصرفاتك إلى العفوية، ولكن عندما تبني علاقة قربٍ معه، يصبح التعاطي ألطف وأجمل. سقوط الحاجز بين البيانو والعازف يجعل العلاقة عفوية وطبيعية فيها إجابات دون أسئلة. أريد الإشارة كذلك إلى حساسية الآلة الموسيقية عامة والبيانو خاصة، يجب التعاطي معه بشكل رقيق وبعناية فائقة دون إصرار، هذا النوع من التعامل يجعل الآلة تطاوع العازف فيهتدي إلى أسرارها وخباياها ويُخرج منها نغمًا يطرب المستمع.


- سجلت مجموعة من موسيقاك على البيانو عام 2008؛ حدثنا عن التجربة وتأثيرها في مسارك الموسيقي؟
* سجّلت ألبوم "Through life" (عبر الحياة) في إبريل/ نيسان عام 2007، ولم يكن التسجيل على البيانو فقط، بل كان بمشاركة أربعة موسيقيين على آلات أخرى. التسجيل بالتعاون مع فنانين آخرين يكسب الموسيقيّ خبرة إضافية، أما تسجيل الفنان عملًا يخصه فيكسبه راحة نفسية واندفاعة إلى الأمام. يشكل التسجيل حالة من الاستقرار للموسيقيّ، هذا الشعور يجعله قادرًا على التفكير بالخطوة التّالية. تلقّيت بعد تسجيل الألبوم أصداء جيّدة وما زالت تصلني بعد عشر سنوات من صدوره.
للأسف، لا يمكنني أن أنكر أنّ الموسيقيّ يصاب بخيبة أمل عند اكتشافه أن الإنتاج الفنيّ يكاد يكون منعدمًا اليوم، فبالإضافة إلى إدارة الموسيقيّ الفنيّة عمله، عليه الاهتمام بالجانب التسويقيّ أيضًا. تعرّض الألبوم لمشاكل في التوزيع ولم ينل نصيبه من التسويق مثلما يجب؛ لذا سأعيد إصدار نسخة ثانية مع إضافة مقطوعة لم تكن موجودة في الألبوم الأول. هذه المقطوعة عبارة عن "صولو" بيانو تعبّر عن لحظة ارتجالٍ عند وجودي في الاستوديو خلال تسجيل موسيقى فيلم. كما أطمح إلى إصدار عدد محدود من هذا الألبوم على أسطوانة "فينيل" لما تمتلكه من أناقة سمعية وبصرية.



- تنتقل أصابعك بين البيانو والبزق، لا تفترق الآلتان على المسرح بحضورك، كيف جمعت بينهما؟
* إنّ العزف على آلتين مختلفتي الأفق يشبه التكلم بلغتين مختلفتين تماماً. على العازف أن يعيش في بلدِ وثقافةِ كلّ آلة لفترة طويلة من أجل إتقان العزف على كليهما، وأنا شخصيًا مزيج من ثقافتين: شرقية وغربية.


- علاقتك بالبيانو تختلف عن علاقتك بالبزق. عزفك على البيانو علاقة أخذ وعطاء، حضور كلاكما قوي ومساوٍ للآخر، علاقة ندّ بندّ؛ أما علاقتك بالبزق فهي أكثر حميمية، مكانه في حضنك يجعلنا نحس بأنه متطلب أكثر وبأنك تعامله بشكل مختلف، كيف تفسر هذا الاختلاف؟
* العزف على البيانو من أغرب وأجمل ما يمكن رؤيته على المسرح، عازف البيانو يتصل مع هذه الآلة الهائلة مستخدماً أطراف الأصابع وأطراف القدم وهنا قمة الرّقة والدقة في الوقت نفسه. من خلال هذه اللمسة تبنى علاقة عميقة مع الآلة وتنسينا ميكانيك البيانو المعقد مترجمة إياه إلى نغم سلس. كما أعتبر البيانو من أكثر الآلات الموسيقية تأثيرًا في الفرقة بأكملها، أشبهه على المسرح بالسفينة الشراعية والعازف هو قبطان هذه السفينة الذي بإمكانه تغيير مسار الفرقة. أما العلاقة مع البزق فهي مختلفة كلياً، أشبهها باجتماع روحين هشّتين لتخلقا كائنًا قويًّا. العزف على البزق يعطي إحساسًا مختلفًا بالقرب حيث إنّ إصبع العازف يلمس الوتر مباشرة دون وسيط. الفرق بين الآلتين هو أنّ للبزق لونًا خاصًّا يأخذك الى أرض معينة وإلى شعور بالانتماء إلى ثقافة تلك الأرض، بينما بات البيانو آلة عالمية تتكلم جميع اللغات وتحتضن جميع الثقافات.



- يضيع المستمع عند الحديث عن الآلات الوترية ذات العنق الطويل، هل يمكنك توضيح الفرق بينها؟
* من الصّعب على المستمع أن يفرق بين عائلة الآلات ذات العنق الطويل لاقترابها واختلافها في الوقت نفسها. أنظّم منذ سنوات محاضرات من أجل شرح الفرق بالتفصيل، حيث أخذني ولعي بالبزق إلى التعاون مع العديد من صنّاعه. يجدر الذكر أنّ امتداد هذه الآلات شاسع ثقافيًّا وجغرافيًّا ويصعب شرحه في جواب قصير.


- يعيش العالم اليوم صراعًا بين الماضي والحاضر، بين الزمن الجميل وزمن الرداءة، هل لا يزال الجمهور يحتفظ بأذن راقية أم أنها في طريق الانقراض؟ وفي هذه الحالة، ما هو طريق تحقيق الأمنيات من وجهة نظرك؟ هل هو تعايش مع الواقع أم اتّباع ما نؤمن به والسباحة عكس التيار؟
* يعيش العالم اليوم فعلًا صراعًا بين الماضي والحاضر، ولا أعتقد بأنه صراع أجيال فقط، إنما هو رغبة ملحّة عند البعض للعودة إلى الجوهر والتخلّي عن كلّ هذا التلوث الفكريّ. إنّ عددًا من الناس اليوم يفضّل الأكل الطبيعي، والتواصل الطبيعي، وحتى الاستماع إلى الموسيقى من خلال أسطوانات تعطيها مجالًا واسعًا لتطربهم، بدل الموسيقى المضغوطة، وهذا مؤشر إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش هذه الفوضى الفكرية إلى الأبد. أنا مؤمن كليًّا بأنّ طريق تحقيق الأمنيات هو الطريق الأصعب وهو السباحة عكس التيار، وأعارض بشدة من يقول إن "رأي الناس هو الأهم"، أقول له: "كُلْ على ذوقك، واسمع على ذوقك".

دلالات
المساهمون