حريق "سينما ريفولي" في القاهرة: حادث عرضي أم مُدبّر؟

13 اغسطس 2018
مبنى سينما ريفولي في القاهرة قبل الحريق (التلفزيون العربي)
+ الخط -
في يناير/ كانون الثاني 1952، اندلعت ـ في وقتٍ واحد ـ عشرات الحرائق في معالم كبرى في القاهرة، في حدثٍ تاريخي اصطلح بعد ذلك على تسميته "حريق القاهرة". من بين المباني المحترقة حينها، "سينما ريفولي"، التي كانت حديثة الإنشاء، إذْ بناها الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز عام 1950، باهتمام كبيرٍ بالتفاصيل المعمارية كلّها، وفي بقعة محورية جدًا في منطقة "وسط البلد"، تحديدًا في شارع الملك فؤاد. شهرتها متأتية من كونها أكبر قاعة مسرح وسينما في البلد كله. ومع اندلاع تلك الحرائق، ظهرت نظريات عديدة تحت عنوان "المؤامرة"، وطُرحت أسئلة لم تتمّ الإجابة عنها بالكامل لغاية الآن، أساسها: من فعل هذا؟ ولماذا؟ 

بعد 66 عامًا على ذلك الحريق، فوجئ السكان والعابرون في "شارع 26 يوليو" (الملك فؤاد سابقًا)، صباح 8 أغسطس/ آب 2018، بحريقٍ يندلع في مبنى السينما العتيقة، ويلتهم جدران الصالة وتفاصيلها المعمارية. كان كلّ شيء قد تغيّر، بما فيها معالم الصالة نفسها وقيمتها. لكن التاريخ أعاد نفسه: هناك حريق، وهناك مسؤول مجهول عن الحريق، وهناك أسئلة عن السبب.
مرّت "سينما ريفولي" في مراحل مختلفة في العقود الطويلة الفاصلة بين الحريقين. فبعد تجديدها إثر "ثورة 25 يوليو 1952"، أصبحت أحد معالم العاصمة. شهدت حفلات غنائية كثيرة، نظرًا إلى اتساع مسرحها الضخم وأناقته المعمارية، منها ليالٍ غنائية لأم كلثوم، حضر إحداها الرئيس جمال عبد الناصر (1955). وظلّ المبنى طوال عقدين كاملين يحتفظ بهاتين القيمة والهيبة.

في سبعينيات القرن الـ20، ومع تغيّر شكل البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية في مصر، لم تعد الحفلات تقام على مسرح "ريفولي" بالشكل نفسه، لكنّ ظلّ هناك ما يميّز المكان: ضخامة القاعة السينمائية التي شهدت عروض عشرات الأفلام في تلك الأعوام. ظلّ هذا حال "السينما" العريقة حتى تسعينيات القرن نفسه، كإحدى أكبر قاعات العرض السينمائي في القاهرة وأجملها. كما أنها احتضنت فاعليات فنية أخرى بين حين وآخر، كاستئجار الممثل فريد شوقي لها عام 1991 لعرض مسرحيته "شارع محمد علي"، التي استمرت أعوامًا عديدة.



مع نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الراهنة، تغيّر مجدّدًا كلّ شيء في بنى القاهرة. لم تعد "قاعة السينما والمسرح الضخمة" أمرًا ذا قيمة، مع انتشار سينما "المولات" (المباني التجارية) التي تتميّز بعدد أكبر من القاعات الأصغر حجمًا. هذا مصير "سينما ريفولي"، فبسبب مجاراة الحالة العامة، استأجرتها شركة توزيع يملكها رجل الأعمال السعودي صالح كامل، قسّمتها إلى 5 قاعات صغيرة بدلاً من القاعة الواحدة.

لكن هذا لم ينقذ السينما بشكل حقيقي، ولم يحفظ لها قيمتها، فهي انتقلت من كونها "مسرح الطبقة الراقية"، الذي تُقام فيه حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، إلى "سينما شعبية" ذات تذاكر رخيصة في منطقة تشهد كثافة سكانية كبيرة (وسط البلد). أما النتيجة فماثلةٌ في تدهورها البطيء في أعوام طويلة، ساءت خلالها أجهزة عرض الأفلام وسمّاعات الصوت، وقلّ حضور الجمهور رغم بناء قاعات عرض أخرى أحدث وأفضل في المنطقة نفسها. والمفاجأة الحاصلة لاحقًا، كامنةٌ في إغلاقها كلّيًا بعد "ثورة 25 يناير 2011"، وأصبح مبناها الضخم والواسع والعتيق مكانًا مهجورًا، يطالب سينمائيون ومثقفون، بين حين وآخر، بإعادة إعماره من دون رد فعل.

هذا كلّه حاصلٌ قبل الاندلاع المفاجئ للحريق الثاني لـ"ريفولي"، من دون معرفة السبب أيضًا. "تقرير الصحة والسلامة المهنية في القاهرة" أشار إلى أن السبب المبدئي "ماس كهربائي"، بينما يتساءل مثقفون ونقاد وصحافيون مصريون عن احتمال أن يكون الحادث برمّته "مُدبَّرًا". فهل يُحتمل أن يكون هدم المبنى القديم، الواقع في مكانٍ حيوي وخاص جداً في القاهرة، من أجل بناء مبنى آخر كأحد المشاريع الكبرى التي تُقام في "وسط البلد" حاليًا؟ لا إجابة واضحة لغاية الآن، والتحقيقات مستمرة، وإن يكن الأمر الواضح أن لمبنى "سينما ريفولي" قيمة كبيرة، وإن يتمكّن من "النهوض" مجدّدًا من حريقه الثاني، كما المرة الأولى، سيكون "نهوضه" هذا حدثًا مهمًا، ثقافيًا ومعماريًا.
دلالات
المساهمون