"مهرجان القاهرة السينمائي الـ40": جماليات البرمجة

01 ديسمبر 2018
"دونباس" للأوكراني سيرغي لوزنيتسا (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تنتهي الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، بعد احتفال بأفلامٍ تشق طريقها إلى مزيدٍ من النجاح الجماهيري، والمرافقة النقدية الباحثة في دلالاتها وحالاتها وأمزجة صانعيها. دورة تستقطب عناوين مثيرة لاهتمام ومتابعة، وتعكس شيئًا من نضارة الصناعة ومفرداتها، وتفرد حيّزًا لاقتصادها وتمويلها وإنتاجها.

المسابقات ثرية بأفلام دولية، بعضها فاعل في المشهد السينمائي العام: "مانتا ـ راي" للتايلاندي فونتيفونغ أرونفينغ، و"روما" للمكسيكي ألفونسو كوارون ("العربي الجديد"، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، و"النهر" للكازاخستانيّ أمير بايغازين ("العربي الجديد"، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018)، و"أمين" للفرنسي فيليب فوكون، و"طيور الممرّ" للكولومبية كريستينا غالياغو وثيرو غيرّا، و"دونباس" للأوكراني سيرغي لوزنيتسا (الأفلام الـ3 الأخيرة مُشاركة في المسابقة الرسمية)، وغيرها. 

اللائحة طويلة. الغنى الجمالي في الأفلام المختارة يعكس حيوية فنِّ مستمرّ في تخطي المصاعب كلّها، التي تحاصره في بلدانٍ غير مُصنِّعة له. الغنى الجمالي مفتوح على مواضيع وكتابة ومعالجة، كما على بناء درامي وأداء ومناخات. "أمين" مثلاً مشغول بسؤال مُلحّ في راهن دولي يُثير متاعب وإشكالات: الهجرة. الابتعاد عن الـ"كليشيهات" يُقابلها اقتراب من حساسية إنسانية في مقاربة حكاية أمين (مصطفى إمبينغي)، السنغاليّ المُقيم في فرنسا منذ 9 أعوام. مصائب اليوميّ لن تحول دون اختباره تجربة عاطفية مع غبرييل (إيمانويل دوفو)، ولن تمنعه من اكتشاف مزيدٍ من معطيات العيش في ذاك البلد. التجربة نفسها تتخطى حاجز اللغة والانتماء الاجتماعي والطبقي، من دون أن يُسرف الفيلم في تناول مسائل كهذه، فالهمّ الأبرز إنساني بحت، والمعالجة معنيّة بأسئلة الثقافة والهوية والعلاقات، المطروحة ببساطة وسلاسة.

التجربة الفرنسية لأمين تضعه أمام اختبار آخر: له زوجة و3 أولاد في بلده. البحث في المسائل المذكورة أعلاها منطلقٌ من عوامل عديدة: هجرة أمين بحدّ ذاتها، لقاؤه غبرييل، ارتباطه بعائشة (زوجته)، رغبته في خلاص أو هناء، عيشه المحاصر بخوف وقلق. هذا كلّه مرويّ بتبسيطٍ يحمل عمق الأسئلة، وبسلاسة تمتلك تأمّلاً في مضامينه. "أمين"، المرتكز على فكرة لياسمينا نيني ـ فوكون، مبنيٌّ على بحث عملي يتمثّل في لقاءات عديدة مع أناس يعيشون الظروف نفسها لأمين: عاملون في بيوت الشباب، مقيمون في أمكنة متفرّقة تتشابه في انتمائها إلى طبقة اجتماعية فقيرة ومهمّشة، نساء ينتظرن أزواجهنّ في البلاد الأصلية لهؤلاء الرجال، ويربّين أولادهنّ بانتظار العودة المنشودة للمغادرين، إلخ. هذا يهدف إلى فهم وقائع يعيشها أناس راغبون في الهجرة.

لكن "أمين" منصرفٌ إلى سرد حكاية رجل واحد يخوض تجربة تضعه على حافة هاوية. واختباراته الفرنسية مدخلٌ إلى ذاته، كمن يجتهد لمصالحة معها وسط ارتباك الهجرة والعلاقات والمشاعر.

أما "طيور الصيف" (الترجمة الحرفية للعنوان الأصلي: Pajaros De Verano)، فيختار نمطًا بصريًا مختلفًا للغاية، لسرد ما يُمكن اعتباره بمثابة رواية موثّقة عن نشوء "كارتلات" المخدرات في كولومبيا. القصّة تشي بتشويق وحركة، لكن المُشاهدة تمنح متعًا بصريًا تمتد من الصورة والإضاءة والصوت، إلى المناخ والأساطير والأمكنة والنزاعات. حبكة الفيلم منطلقة من رغبة رابايِتْ (خوسي أكوستا) في الزواج بزايدة (ناتاليا رايّس)، وهذا يُفترض به أن يكون عاديًا، لو أن الشاب غير منتمٍ إلى قبيلة "وايو"، وغير متحدّر من سلالة تعرف صراعاتٍ جمة لكنها تُدرك معنى التوافق والسلم والانفتاح. الشرط الوحيد للقبول به زوجًا، يتمثّل في مَهْرٍ موزّع على حيوانات وقلادات، ما يُورِّط رابايِت في تجارة المخدرات لأميركيين مُقيمين في إحدى القرى الشمالية في كولومبيا.

جمالية "طيور الصيف" متحرّرة من تقنيات نوع سينمائي يسرد كواليس تجارة المخدرات، وما تُنتجه من نزاعات عنفية ودموية. هناك ـ بالإضافة إلى سرد حكاية نشوء الـ"كارتلات"، في كولومبيا، في سبعينيات القرن الـ20 ـ كمٌّ من القصص الشعبية والأساطير الموغلة في القِدم، وهي ركيزة عيش ضمن بناء اجتماعي متوارث جيلاً تلو آخر، وهو (البناء) كفيلٌ باستمرارية عشائر وقبائل. لذا، ما يبدأ كقصة حب وتقليد اجتماعي بسيط، يتحوّل إلى عوالم ثرية بصُوَرها السينمائية الآسرة، ويتفنّن كثيرًا في كيفية استخدام التقنيات داخل السرد الحكائيّ: كادرات ولقطات وموسيقى وهندسة صوت وإضاءة، بشكل خاص. كما أن التقنيات تلك متمكّنة من كشف تفاصيل دقيقة عن عادات وأنماط احتفالات محلية، ما يُثري النصّ السينمائي ويجعله أمتن في تقديم رواية الـ"كارتلات".

إلى ذلك، وفي ظلّ النزاعات المستمرة في أوكرانيا، يأتي "دونباس" ـ المعروض في افتتاح مسابقة "نظرة ما" في الدورة (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ ليكشف شيئًا من أهوال حربٍ، وانكسار مدينة، وخيبات أناس وجنونهم. أوصاف مختلفة قيلت عنه (مهزلة مأسوية، كوميديا سوداء)، لكنها أعجز من أن تَفِي جمالياته حقّها. فالتداخل قاسٍ وجميل بين الواقعيّ والتاريخيّ والإنساني والاستخباراتي والعسكري؛ والكاميرا (أولِغ موتو) أقدر على تفتيت كلّ شيء تلتقطه في مساره المتجوّل بين أناس وحالات وانفعالات؛ والتوليف (دانياليوس كوكانوسكيس) يستكمل عملية البناء الدرامي بأسلوبٍ سلس، لكنه مفتوح على المبطّن أو المخبّأ في ثنايا الحكايات والمسارات والمصائر.

نماذج تقول شيئًا من جمالية برمجة سينمائية، يعتمدها مهرجانٌ يُراد له الصمود في مواجهة تحدّيات جمّة.
المساهمون