احتفال افتتاحي يليق بالمعنى الثقافي والفني والفكريّ للفيلم الوثائقي، ولتمكّن هذا النوع البصري من مواكبة أحوال الدنيا والمجتمعات والأفراد، ومن بثّ صُوَر تجمع التوثيقي بالسينمائيّ، وتلتقط نبض اللحظة والحياة، وتسعى إلى تأريخ جمالي لذاكرة منبثقة من راهنٍ يعاني اضطرابات شتّى في أصقاع مختلفة من العالم.
في المقابل، لم يكن اختيار فيلمٍ للافتتاح صعبا، فـ"كابول، مدينة في الريح" للأفغاني الهولندي أبوزار أميني (1985) ملائمٌ لتلبيته الشرط الثقافي والفني أساسًا. فالمشاركة الإنتاجية لهولندا في تحقيقه عاملٌ مُساعد، لكنها لن تحول دون التنبّه إلى نواته الإنسانية في مقاربة أحوال كابول في 3 أعوام، بدءًا من عام 2015، مع بداية تصوير اللقطات الأولى من عملٍ، يتحوّل إلى شهادة وثائقية تجمع جمالية الصورة الوثائقية (تصويرًا ومونتاجًا وبناءً دراميًا) بهمّ إنساني بحت، يستعيد وقائع الحروب المتتالية في تلك المدينة، ويتوغّل في مسام روحها وحياتها عبر شخصيات تحمل في ذواتها أهوال الماضي وقسوة الحاضر.
"زرت كابول 15 مرة. وفي كلّ مرة، كنتُ محظوظًا بالنجاة من عمليتين انتحاريتين إرهابيتين على الأقلّ. كلّ ما أمكنني فعله هو اتّخاذ بعض التدابير الأمنية الأساسية، كتلك التي ينصح ملصق الفيلم بها: تجنّب المناطق المزدحمة، وعندما يحدث شيء ما لا تذهب إلى مكان الحدث لأن الانتحاريين سيُفجّرون أنفسهم في تلك اللحظة"، يقول أميني. لكن الحدث الأبرز الذي يُؤثّر به كثيرًا، يقع في أحد أيام يوليو/ تموز 2016 في "ساحة دِهْ مازان": عمليتان انتحاريتان تقتلان 86 شخصّا وتُصيبان نحو 400 آخرين بجروح مختلفة. يقول أميني: "شاهدتُ العنف. شاهدتُ أجسادًا ممزّقة، ورؤوسًا مقتلعة من بعضها. هناك أناسٌ أعرفهم. أناسٌ كانوا يُطالبون بالسلام طوال صباح اليوم نفسه. هذا رهيب ومروِّع. في تلك اللحظة، قرّرت عدم إظهار أي لقطةِ عنفٍ في الفيلم".
كلام يُشير إلى وقائع عملية تدفع أميني إلى الذهاب بعيدًا في نفوس أفراد مُصابين بأعطاب في الروح والنفس جرّاء تلك الوحشية في الاستخدام المفرط لعنف ناتجٍ من حروبٍ، والعمليات الانتحارية جزء أساسي منها. لكن العنف، المُغيَّب كلّيًا عن الفيلم بشكله المباشر، حاضرٌ في تفاصيل وخبريات وخلفيات ومشاعر وبوح. فـ"كابول، مدينة في الريح" يتابع يوميات أناسٍ في تلك اللحظات الأصعب للعيش في القلق والارتباك والخوف، وهم يتمسّكون ـ في الوقت نفسه ـ بأملٍ ما في الحياة. لحظات هي الأقسى والأحدّ والأعنف، أي تلك الممتدة بين عمليتين انتحاريتين، والمُسماة بـ"فترات الصمت".
يُذكر أن الدورة الـ31 هذه، المنتهية مساء 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، تعرض 17 فيلمًا عربيًا، بينها أعمال لمخرجين أجانب، كـ"طريق آل السموني" للإيطالي ستيفانو سافوني ("العربي الجديد"، 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018)، و"نكهات العراق" للفرنسي ليونار كون، و"ماذا تريد ولاء" للكندي كريستي غارلاند، و"حلب: صمت الحرب" للإيراني أمير أوسانلو. أما فلسطين، فتُشارك بـ6 أفلام، بينها Fix Me (2009) لرائد أنضوني، الذي يُعرض في برنامج "حديث مع المخرج".
هناك أيضًا فيلمان من تونس: "رجل السكك الحديدية" لإيريج سهيري و"ماض مسكون" لفاطمة رياحي، وفيلمان لبنانيان: "طرس ـ الصعود إلى اللامرئي" لغسان حلواني و"غرفة للرجل" لأنطوني شدياق، وكلّها مُنتجة عام 2018.