سحب ودائع السوريين في المصارف اللبنانية.. مبالغة بالأرقام

04 مارس 2024
قيود صارمة لا تزال مفروضة على السحوبات من البنوك اللبنانية (حسين بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -

منذ أعلن مصرف لبنان المركزي، مطلع فبراير/ شباط الماضي، عن تسديد ودائع بالعملات الأجنبية، وإتاحة الفرصة للمودعين بسحب 1800 دولار سنوياً، والآمال المصحوبة بالمبالغة والتعويل على الوهم، تدغدغ أصحاب القرار الاقتصادي في سورية، معتبرين عودة الإيداعات السورية من المصارف اللبنانية، الحل السحري الذي سيغيث الاقتصاد المتهالك.

ربما من دون أن يقرأوا تعميم المركزي اللبناني الذي حدد الفئة حسب تاريخ تكوّن الإيداع أو معرفتهم هل هذه القفزة اللبنانية إلى الأمام، هدفها إعادة الأموال أم إرسال رسالة لمن يهمه الأمر، أن الاقتصاد اللبناني لم يزل بخير وزج كلمة إفلاس مستبعدة عن الدولة والمصارف.

ويرى المستشار الاقتصادي السوري، أسامة قاضي، أن الأمر الأول هو المبالغة الكبيرة بأموال المودعين السوريين بلبنان، إذ لا يتوقع أن تصل لأربعين مليار دولار، كما ادعى رئيس النظام بشار الأسد، بل حتى إن كانت الإيداعات كبيرة لا بد من تفريقها حسب سنة الإيداع أولاً، ومن ثم هل المودعون يحملون الجنسية اللبنانية أم لا "هذا أمر قلما تم التطرق إليه".

لكن، بجميع الأحوال، يضيف قاضي لـ"العربي الجديد" فإن المبلغ المسموح بسحبه شهرياً لا يتجاوز 150 دولاراً، وهو أقل من أن يعوّل عليه، ليس على صعيد إنعاش الاقتصاد السوري المنهار، بل ولا على صعيد تكاليف معيشة الأسرة المودعة التي تزيد نفقاتها، إن بسورية أو لبنان، عن ذلك المبلغ.

ويعتقد المستشار السوري أن تعميم مصرف لبنان المركزي رقم 166 للشهر الماضي، يحمل رسائل عدة موجهة للبنانيين والدول المانحة أكثر منها للمودعين، فهو يدلل على أن المصارف اللبنانية لم تزل قادرة على الاستمرار وليست مفلسة، وها هي بدأت بتسوية أوضاع المودعين، فضلاً عن أمر مهم ومطمئن للمودعين، بأن أموالهم بالمصارف لم تزل مؤهلة ومعترف بها وممكن أن تعاد للمودع بعد إقرارها بالدولار وليست بـ"لولار" كما تسمى بلبنان، أي "الليرة دولار"، وذلك لنفي ما جرى ترديده قبل عامين من أن المصارف أفلست، ووجدنا حوادث عدة بلبنان حول هذا الأمر.

وحول مبلغ السحب الذي بدأ منذ مطلع الشهر الجاري، يشير قاضي إلى أنه قليل جداً، ولكن لا بد من النظر إلى رمزيته بعودة المصارف لتسوية مشكلة الإيداعات المشكوك بسحبها، كما أنه مؤقت برأيي، ريثما يصدر قانون "الكابيتال كونترول".

وكان مصرف لبنان المركزي قد أصدر مطلع الشهر الماضي التعميم 166 القاضي بصرف 150 دولاراً لكل حساب مصرفي عالق لدى المصارف، وسيتقاسم مصرف لبنان مسؤولية تكلفة سداد الـ150 دولاراً للمودعين المستفيدين من التعميم البديل عن التعميم 151 وسيتحمّل نصف تكلفة التعميم البالغة قرابة 230 مليون دولار سنوياً.

وشمل التعميم البديل عن سابقه ذي الرقم 151، جميع الودائع غير المشمولة بالتعميم 158، بمعنى آخر سيستفيد من التعميم كل مودع لا تسري عليه اليوم عملية سحب 300 دولار "فريش"، مع بعض الاستثناءات، من بينها استثناء تجار الشيكات.

كما سيستفيد المودع من سحب 150 دولاراً كحد أقصى شهرياً مهما بلغ حجم حسابه المصرفي لكن لا يمكن للمودع الاستفادة من التعميم الجديد من أكثر من حساب مصرفي" يستفيد المودع بالسحب من حساب واحد فقط مهما تعدّدت الحسابات في المصارف".

وتتباين ادعاءات حجم إيداعات السوريين بالمصارف اللبنانية، ففي حين قال رئيس النظام، بشار الأسد سابقاً "إن ودائع السوريين في المصارف اللبنانية ما بين 20 و42 مليار دولار"، مضيفاً أننا لا نعرف ما الرقم الحقيقي، وهذا الرقم بالنسبة لاقتصاد مثل اقتصاد سورية هو رقم مخيف.

وقدّرت دراسة قدمها "المرصد العمالي للدراسات والبحوث" بدمشق بعنوان "لبنان أمام أزمة مالية مرتقبة، وآثار سيئة على الاقتصاد السوري" الإيداعات بنحو 45 مليار دولار.
 وعلق معد الدراسة، رئيس قسم المصارف في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، علي كنعان، بأن إيداعات السوريين تزيد عن 25.4% من إجمالي الودائع في المصارف اللبنانية، والبالغة نحو 177 مليار دولار أميركي.

وحول تفاصيل هذه التقديرات، يؤكد كنعان خلال تصريحات صحافية سابقة، أن تلك التقديرات تخص إيداعات السوريين الأفراد، المستثمرين ورجال الأعمال خاصة، من دون احتساب إيداعات المصارف وشركات التأمين الخاضعة تحت بند حساب المراسلين وغيره، وباحتسابها، فإن إجمالي رقم الإيداعات يتخطى 50 مليار دولار في لبنان.

وهذا الرقم يجده رجل أعمال سوري مقيم بلبنان "مبالغاً به"، مؤكداً أن السرية المصرفية لا تكشف حجم الإيداعات، كما أن لتراكم الإيداعات السورية بلبنان "حكاية طويلة" تبدأ منذ الوحدة مع مصر عام 1958، ومن ثم التأميم على الممتلكات الخاصة، الأمر الذي جعل المصارف اللبنانية ملاذاً لأموال السوريين، وربما الأهم بعد تلك المرحلة وما تلاها من مراحل البعث وحكم حافظ الأسد، أن العديد من التجار والصناعيين السوريين يودعون أموالهم بلبنان لسهولة التحويل وتخليص عمليات الاستيراد والتصدير.

ويضيف رجل الأعمال السوري الذي طلب عدم ذكر اسمه لـ "العربي الجديد" أن التعميم الجديد الذي ألغى سابقه ذي الرقم 151، مهم لأنه يسمح بالسحب وفق سعر الصرف الحقيقي، وليس كما السابق بسعر 15 ألف ليرة سعر الدولار.

وأشار إلى أن سعر الدولار بالسوق اليوم نحو 89.4 ألف ليرة لبنانية، ولكن جاء  بالتعميم "شرط خطر" وهو عدم تشميله لكل من حرك حسابه عبر شيكات منذ أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، فلن يستفيد من التعميم الجديد، كما لن يستفيد من السحب كل من حول إيداعاته من الليرة اللبنانية إلى الدولار بمبلغ أكثر من 300 ألف دولار، كما لا يستفيد من لدى حسابه حركة صيرفة "شراء دولار" بأكثر من 75 ألف دولار.

وحول بدء تطبيق التعميم وحق السحب، يشير رجل الأعمال أنه صالح منذ تاريخ توقيع المودع على التعميم، أي يسحب منذ مطلع الشهر الجاري مبيناً أنه بعد السحب الشهري، يحق للمودع السحب بمفعول رجعي "إن لم يسحب لخمسة أشهر مثلاً يحق له أن يسحب 750 دولاراً دفعة واحدة أو يحولها للخارج أو لمكنات سحب العملة بالشوارع.. كما يشاء".

ويختم المتحدث بأن التعميم لاقى ردات أفعال "سلبية جداً" لدى أكثر من 1.4 مليون مودع بلبنان، ولكنه بالنتيجة أمر واقع وافق عليه مجلس النواب، ويراه البعض شيئاً أحسن من لا شيء، وربما يتطور بعد ما قد يلقاه من مصداقية خارجية وصرف النظر عن مقولات إفلاس المصارف والدولة. ولكن أي حديث حول كفاية مبلغ السحب، أو تحسين سعر صرف الليرتين، اللبنانية أو السورية، أو حتى تحريك الاقتصاد المتهالك بكلتا الدولتين "هو تخريف".

ويقول الاقتصادي السوري، عامر شهدا: إذا التزمت الحكومة اللبنانية بالقرار ونُفّذ بالفعل، فسيكون الانعكاس على الليرة السورية ضعيفاً، إلا في حالة واحدة، وهي قيام المودعين السوريين بسحب ودائعهم وتصريفها في السوق السورية.

وشدّد شهدا، في الوقت ذاته على ضرورة مراقبة الكتلة النقدية في سورية بالنسبة لليرة السورية، محذراً من احتمال تصاعد وتيرة تهريبها من أجل شراء الدولار من لبنان.

واستبعد شهدا، خلال تصريح نقلته وكالة أنباء العالم العربي أن تدخل نسبة من هذه الأموال كمدّخرات، أو في مفاصل الاقتصاد السوري، بسبب ما وصفه بالسياسة الانكماشية التي يتبعها مصرف سورية المركزي، حيث إن الإجراءات معقّدة جداً لمن يريد أن يودع مدخرات بالعملة الأجنبية في المصارف السورية. كما أن موضوع السحب خاضع لسياسة انكماشية.

وكان الباحث السوري عابد فضلية، قد صرح سابقاً بأن القرار سيتيح للمودعين السوريين سحب أموالهم وإيداعاتهم من المصارف اللبنانية، وسيكون ذلك إيجابياً على البلاد، سواء عادت هذه الأموال فوراً إلى سورية أم موّلت من الخارج صفقات الاستيراد، مضيفاً لموقع "أثر برس" بدمشق أن أموال السوريين في الخارج، بما فيها الموجودة في لبنان ليست كلها هاربة أو مهربة، وجزء كبير منها موجود في الخارج منذ عقود، كإيداعات مجمدة أو منخرطة في تمويل أنشطة استثمارية أو صفقات تجارية أو تسديد ثمن مستوردات لصالح رجال أعمال داخل البلاد.

غير أن فضلية يشير إلى أن حل مشكلة الإيداعات في المصارف اللبنانية، وبدء نقل أموال السوريين من وإلى بلدهم، سينعكس إيجاباً على سعر صرف الليرة السورية وتعزيز إيراداتها من القطع الأجنبي، لكن كل ذلك بشرط ثبات العوامل الأخرى، شرط ألا يحدث ما يمكن أن يعوق ذلك.

ويعّقب الاقتصادي السوري عماد الدين المصبح على تصريح الباحث فضلية بأنه "أمل إبليس بالجنة"، واصفاً فضلية بعدم الاطلاع على التعميم، فإن لم نقف عند شرط أن تكون الأموال المودعة مكونة بعد أكتوبر 2019، أو لم نذكّر بشرط عدم تحريك شيكات أو استخدام الصيرفة، لنركز فقط على مبلغ 150 دولاراً شهرياً، فهي أقرب لنفقات الأسرة شهرياً، ولا يمكن التعويل عليها برفد الاقتصاد وتحريكه، أو تعديل سعر صرف الليرة السورية.

ويضيف المصبح لـ"العربي الجديد" بدل أن يذهب تفكير الاقتصاديين بدمشق لهذا التعميم، عليهم أن يسألوا أنفسهم أولاً عن سبب هروب الرساميل إلى لبنان وغيرها، وأن يعيدوا النظر بالمناخ والقوانين الاقتصادية والمالية بسورية، ولعل الأهم، لديهم فرصة الآن لا يجب أن يفوتوها ويمكن أن تنعكس أكثر من تعميم مصرف لبنان بسحب 150 دولاراً، وهي تعديل سعر الحوالات الخارجية إلى ما يوازي سعر الصرف بالسوق، فحتى أمس لا يصل سعر دولار الحوالات لـ13400 ليرة، في حين أن سعر الدولار اليوم بالسوق نحو 14200 ليرة.

وكان مصرف سورية المركزي، قد خفض أمس الأحد سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي بمقدار 100 ليرة. محدداً سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي للحوالات والصرافة بـ 13400 ليرة للدولار الواحد، كما حدد سعر صرف الليرة السورية مقابل اليورو بـ 14521 ليرة سورية لليورو.

يذكر أن الاقتصاد اللبناني دخل منذ عام 2019 بحالة شبه انهيار، بعد أن فقدت العملة حوالي 95% من قيمتها، ومنعت البنوك معظم المودعين من سحب مدخراتهم، وبات أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر.

كما حال نظام المحاصصة والفراغ السياسي والخلافات دون تطبيق الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، للحصول على حزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار للبنان، وتشمل إقرار تشريعات لحل أزمة لبنان المصرفية، وتوحيد أسعار الصرف المتعددة، بعد أن حثّ الصندوق الدولي لبنان على النظر في زيادة الإنفاق الاجتماعي "بهدف حماية الفئات الأكثر ضعفاً".

وأكد أن لبنان سيغرق في أزمة لن تنتهي أبداً ما لم ينفذ إصلاحات سريعة، وهو ما يراه مراقبون اليوم، بداية لتلك الإصلاحات، والتطلع إلى قروض لبدء حلحلة الاقتصاد اللبناني المرتبط لا شك اليوم، بالحرب الإسرائيلية على غزة.

المساهمون