بمجرد أن سارت روسيا على ذات نهج الغرب باستغلال ما تملكه من أدوات اقتصادية، حتى ثارت الحاسّة الإنسانية للولايات المتحدة وأتباعها، وتحدّثوا عن ضرورة عدم "سلحنة" الغذاء والطاقة في الصراعات الدولية، رغم أنهم من بدأوا بكل ذلك، بما شمل حتى العملة الدولية التي تشتري كل شيء، وبكل ما تتضمّنه وتقوم عليه من بنية مالية عالمية يُفترض كونها "سلعة عامة" للعالم كله، تكتسب مصداقيتها والثقة بها من حيادها وعدم تسييسها بالأساس.
يعيدنا هذا لأصول وجذور سلاح العقوبات الاقتصادية في الممارسة الدولية، فعندما ابتكرت السياسة الأميركية سلاح العقوبات الاقتصادية كبديل للعمليات العسكرية منذ ما يقرب من قرن، كانت تستبطن، بعيداً عن الادعاءات الأخلاقية والدعاوى الأيديولوجية، كأساس ضروري لفاعليتها وشرط حاسم لنجاحها، تفوقاً اقتصادياً عالمياً يجعل لها تأثيرًا جوهريًا.
ولعلّها لهذا السبب لم تكتسب شهرتها كأداة في الصراعات الدولية، ولم تعش عصرها الذهبي، سوى مع ضعف وانهيار الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة بناصية أمور العالم، اقتصاده قبل سياسته، فتشير التقديرات لنموها بأكثر من 150% خلال الفترة 1985-2015، مقابل نموها بنحو 100% فقط خلال الأربعين عاماً السابقة عليها.
وقد ساهم في ذلك بالطبع تطوّر الاقتصاد العالمي ذاته وتعاظم تشابكاته المالية وبنيته الاتصالية، ما ظهر في تطوّر وتعقّد أشكال العقوبات الاقتصادية، بدءاً من استقلالها عن المساعي العسكرية التي كانت مجرد مُلحق لها قبل الحرب العالمية الثانية، مرورًا بتحوّلها نوعياً إلى عقوبات شاملة ثم إلى ما عُرف بالعقوبات الذكية، ووصولاً إلى تعدّد وتنوّع أشكالها من مجرد عقوبات تجارية وحواجز اقتصادية إلى المقاطعة الإدارية والعقوبات المالية والتقييدات النقدية والمصرفية وحظر معاملات المسؤولين... إلخ.
كذا كان مما شمله ذلك التحوّل مؤخراً، التراجع النسبي عن استخدامها كأداة لإضعاف استقرار الأنظمة سياسياً؛ كونها أثبتت عدم فاعليتها على هذا الصعيد، بل ومفاقمتها للآلام الإنسانية للشعوب المغلوبة على أمرها دونما إضرار جوهري بالأنظمة المُستهدفة، بل ربما زيادة شعبيتها وقوتها إذا نجحت تلك الأنظمة في تحويلها لمعركة صمود وطني في مواجهة ضغوط خارجية؛ الأمر الذي لا يعوزها الدليل عليه في أغلب الأحيان، مع حقيقة عدم نزاهة الدول التي تقرّر العقوبات معظم الأوقات، ناهيك عن ازدواجية معاييرها المتواترة وسوء سمعتها تاريخياً.
وربما كان هذا أول أخطاء الولايات المتحدة في استخدامها العقوبات ضد روسيا، وهو تجاهل هذا الدرس التاريخي بلا جدوى العقوبات كسلاح سياسي، سواء لإعاقة حرب أو لإسقاط نظام. أما الخطأ الثاني فهو تجاهل حجم الدولة المستهدفة بالعقوبات، وهو أحد شروط نجاحها، والمفهوم ضمنيًا من شرط التفوق الاقتصادي العالمي كضرورة لنشأة سلاح العقوبات ابتداءً.
ولا شك في أن روسيا لم تعد قوة اقتصادية ضخمة، ولا هي ندّ بأي شكل لاقتصادات الغرب الكبرى، لكنها تظل قوة اقتصادية معتبرة عالميًا بمعطيات الاقتصاد الحقيقي، سواءً من الوجهة الكمّية، باعتبارها الاقتصاد الحادي عشر عالمياً في أسوأ التقديرات والسادس عالميًا في أفضلها، أو من الوجهة الكيفية باعتبارها مورّدا أساسيا لكثير من السلع الأساسية المهمة للاقتصاد العالمي بمجموعه.
لهذا لم يتوافر شرط "التفوق الساحق" الذي يكفل فاعلية العقوبات الاقتصادية دونما ارتدادات عكسية ضارة بالدول التي قرّرت العقوبات أو على الاقتصاد العالمي بمجموعه، خصوصًا في سياق دولي مختلف تتراجع فيه المكانة الاحتكارية البارزة لاقتصادات الغرب لصالح لاعبين جُدد يصعدون بتؤدة لمنافستهم على ذلك التفوق ومزاحمتهم في تلك المكانة.
وهكذا اجتمعت اعتبارات "الحجم النسبي" لروسيا كاقتصاد كبير، و"المكانة النوعية" لها في العديد من أسواق السلع العالمية الأساسية، و"السياق العالمي" من صعود لاعبين اقتصاديين جُدد؛ لتضعف معاً فاعلية العقوبات، بل ولتفاقم ارتداداتها العكسية لتكتسب اتجاهات نوعية عميقة الأثر طويلة المدى، بل وربما تمهّد الأرض لمزيد من ضعف وتفكك النظام العالمي، ومعه الهيمنة الأميركية بمجموعها.
ولعلّ التراجع المتزايد للثقة في الدولار؛ بما يتبعه من تخفّف تدريجي من الاعتماد عليه كعملة السيولة المالية والاحتياطيات الدولية الأولى عالمياً، هو أول وأبرز الارتدادات العكسية، مع إفراط الولايات المتحدة في توظيفه في الصراعات ضمن استغلالها الأشمل لهيمنتها على البنية المالية العالمية.
فضلاً عن إفراطها في طباعة العملة ضمن برامج التسيير الكمّي وخلال فترة كورونا، ورفعها لاحقاً لأسعار الفائدة وتصديرها التضخّم، لخدمة متطلباتها الاقتصادية الخاصة في جميع الأحوال، دونما مراعاة لمصالح بقية دول العالم المتأثرة بسياساتها النقدية الأنانية؛ ما يعمّق الاتجاه التاريخي لتراجع الاعتماد على الدولار، الذي انخفضت حصته فعليًا من 72% إلى 58% تقريبًا من الاحتياطيات النقدية العالمية خلال العقدين الماضيين، ضمن الاتجاه العالمي لصعود اقتصادات الصين ومنظمة البريكس، فضلاً عن خطط استبدال أصول وعملات أخرى به لدى البنوك المركزية لكبرى اقتصادات المنظمة، وتحديدًا روسيا والصين.
بل وما يبدو كبوادر تمرّد على الدولار حتى داخل دائرة الحلفاء الغربيين الأساسيين، كتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وغيره؛ مما يفتح الباب لتعمّق هذا الاتجاه، إن لم يكن بدوافع السياسة والأمن القومي، فبحوافز الاقتصاد وضرورات تقليل المخاطر المالية والنقدية.
ثاني الارتدادات العكسية هو تفاقم الاتجاه التراجعي في التجارة الدولية الذي بدأ فعلياً منذ الأزمة المالية العالمية 2008م، والتي تراجعت من ذروتها التاريخية حينذاك بنسبة 61% من الناتج الإجمالي العالمي، إلى 52% منه عام 2020.
ورغم ما يبدو من بوادر لتعافيها إلى 57% منه عام 2021، فإن تطورها منذ الأزمة، وطوال ما يقرب من عقد ونصف، يعكس اتجاهاً عامًا للتراجع أو الركود في أحسن الأحوال، والمُرجّح تفاقمه مع ما يعيشه الاقتصاد العالمي اليوم من بوادر ركود كبير جرى تأجيله كثيرًا بجرعات التسيير النقدية التخديرية.
ويعني هذا التراجع المحتمل بقوة في التجارة العالمية تباطؤ -إن لم يكن انتهاء- موجة العولمة الحالية، وربما في أسوأ السيناريوهات تفكك النظام الاقتصادي العالمي الحالي إلى معسكرين شبه منفصلين أو عدة مناطق إقليمية، وهو ما يتوافق مع توقعات الاستراتيجي الأميركي جون ميرشايمر لمستقبل النظام العالمي، بانقسامه لثلاثة أنظمة، نظام دولي هزيل معني أساسًا بالقضايا المشتركة كالحدّ من التسلح وفاعلية الاقتصاد العالمي والتغيّر المناخي وما إلى ذلك، مقابل نظامين محدودين قويين، بقيادة الصين والولايات المتحدة، مع تصاعد المنافسة العسكرية والاقتصادية ضمن استمرار للعلاقات التجارية بصيغة مختلفة، بشكل يشبه وضع الصراع بين الحِلف الثلاثي (النمسا-المجر وألمانيا وإيطاليا) والوفاق الثلاثي (بريطانيا العُظمى وفرنسا وروسيا) في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى.
ثالث التداعيات، والذي يمثل الوجه الجزئي والنوعي للأثر الكلي والكمّي السابق، والذي يتضمّن بذاته قنوات تحقّق هذا الأخير، وهو تحوّل هياكل التجارة والأسعار عبر قناتيّ: (1) اضطرابات سلاسل الإمداد والقيمة العالمية وما تتطلّبه من إعادة هيكلة شاملة في بعض الجوانب، و(2) التغيّرات في الاتجاهات متوسطة الأجل لأسعار السلع الأساسية، وهما قناتان مرتبطتان كما هو واضح، ورغم إمكانية مواجهة آثارهما قصيرة الأجل في ظل استمرار محدودية الصراع، فإن احتماليات تطاوله واتساعه وما قد يجرّه من مقاطعات وعقوبات متبادلة متزايدة، خصوصاً على أصعدة السلع الأكثر استراتيجية كالغذاء والطاقة، قد تؤدي لآثار متوسطة وطويلة الأجل، ليس أبسطها مُفاقمة ما يجري الحديث عنه من "تضخّم مُزمن"، وليس مؤقتا ولا انتقاليا، ينتظر الاقتصاد العالمي في قادم السنوات، ويعاني من بذور كامنة له بالفعل؛ بما يتضمّنه ذلك من زيادة مناخ التشاؤم الاستثماري وإشاعة جو من عدم التأكد، فيما العالم على أبواب ركود مؤجل بالفعل؛ ما يعني بالمُجمل عقداً قادماً -على الأقل- من ضعف معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة والتضخم والفقر.
رابع التداعيات، هو تراجع الثقة في قدرة الولايات المتحدة على الحشد والتعبئة السياسية والدبلوماسية، مع التفكك المُحتمل في حِلفها الغربي ضد روسيا مع تطاول الوضع المُكلّف دونما حل، وما سيتبعه من تحوّل نسبي في الثقة الدولية نحو الشرق، ومعه تعمّق علاقات بلدان العالم الثالث بروسيا والصين كأقطاب جديدة قادرة -بأكثر الأوصاف تحفظاً- على مناكفة الولايات المتحدة، وربما فرض واقع عالمي مختلف؛ بما لذلك من نشوء مسارات وأنماط جديدة كاملة من التجارة الدولية والاستثمار العابر للحدود، يرجح أن تتصدّر الحكومات القومية ورأسمالية الدولة الجديدة صياغتها، بعيدًا عن النموذج النيوليبرالي التقليدي السائد للشركات متعددة الجنسيات منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي.
ومن الطبيعي في هذا السياق من تفكك في لُحْمَة النظام الدولي اقتصاديًا وسياسيًا، بصيغته الأميركية خصوصًا، أن تتراجع كذلك، كنتيجة خامسة، إيديولوجية الاعتماد المتبادل الذي بنت عليها السرديات النيوليبرالية تصوّراتها عن عالم جديد يزدهر بالتجارة، ويحلّ خلافاته بها، بديلاً عن الحرب، والتي تجاهلت كعادتها الاختلافات النوعية والتراتبيات البنيوية في أوضاع الدول، والصراعات القومية والتناقضات الثقافية فيما بينها، كذا بالغت في افتراضها الهيمنة المُطلقة للمُحدّد الاقتصادي المباشر على كافة الاتجاهات والقرارات.
فيما يُظهِر الواقع أنه توجد "نقطة انقلاب" أو "لحظة تحوّل" في منحنى فاعلية الاعتماد المتبادل، هي تحوّل الخلاف بين الدول من مستوى اختلافات المصالح والسياسات قصيرة الأجل إلى مستوى الصدام الجيوسياسي الاستراتيجي، أي تحوّله لمستوى التهديد الوجودي، وهو الأمر الذي لا يخلو من المصالح الاقتصادية، لكن بتحوّل في طبيعة تلك المصالح، من مصالح ربحية قصيرة الأجل إلى مصالح هيكلية طويلة الأجل، مما يتعلق جوهريًا بالمواقع الجيوتاريخية في مُجمل النظام العالمي بمفهوم إيمانويل واليرشتاين، خصوصًا في مراحل تحوّله وتبادل الأدوار والمواقع ضمنه، التي تحدث في الفترات الانتقالية المُزامنة لتمفصلات الدورات الاقتصادية الكبرى.
ينتج عن هذا أنه ربما يكون الاعتماد المتبادل فاعلاً في المستوى الأول، لكنه يفقد فاعليته بمجرد تجاوز نقطة الانقلاب المذكورة؛ حيث تتحوّل الخسائر الاقتصادية قصيرة الأجل التي كانت تحرّك الحسابات في المستوى الأول، إلى مجرد تكلفة ضرورية لتحقيق أولويات أكبر في المستوى الثاني، وتسقط معها فرضية هيمنة العامل الاقتصادي بمعناه الضيق -التجاري والمالي أساسًا- كمُحدِد حاسم للقرارات، لصالح الضرورات الأكثر استراتيجية؛ والتي عندها لا تكون للعقوبات الاقتصادية -كقاعدة عامة- أيّة فاعلية سياسية، ولا تعمل كبديل للحرب كما أملَ وودور ويلسون يومًا.
بل ربما تكون -كما يبدو أنها تفعل الآن- دافعاً لزيادة التوترات حرارةً والدفع بالعالم لمزيد من الانقسام الحاد والصراع العنيف، خصوصاً في سياق عدم التفوق الساحق كشرط أساسي لفاعليتها.