ربما يكون احتمال فوز الرئيس دونالد ترامب بدورة ثانية أسوأ كابوس يقض مضاجع القيادات السياسية والاقتصادية في ألمانيا في الوقت الراهن، إذ إن فوزه بدورة ثانية سيعني المزيد من الشراسة والسياسات العدائية ضد الشركات الألمانية وحركة صادراتها إلى أميركا، حسب مراقبين.
كما أن الفوز ربما سيهدد بتجميد كميات الذهب الضخمة التي تخزنها الحكومة الألمانية في كل من نيويورك ولندن.
ووصف رئيس اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية الألمانية، نوربيرت روتجن، فوز ترامب بأنه سيهدد "التحالف بين أوروبا وأميركا، ويفتح الباب أمام الصين لتملأ الفراغ الذي ستتركه واشنطن"، حسب تصريحات نقلتها مجلة بوليتيكو الأميركية.
في هذا الشأن، أظهر مسح أجرته موسسة "آر آند في فيرشيرنوغ" الألمانية، أن سياسة ترامب تعد أكبر مخاوف مواطني ألمانيا، لأنهم يعتقدون أنه يهدد السلام العالمي. ويشير المسح إلى أن الألمان يتخوفون من فوز ترامب بدورة ثانية أكثر من تخوفهم من جائحة كورونا.
وقبل صعود ترامب لرئاسة الولايات المتحدة كان الألمان يقلقون من روسيا وطموحاتها في أوروبا، ولكن مسح "يوغوف" الأخير، أثبت أن الألمان قلقون من سياسات ترامب أكثر من قلقهم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن، لماذا كل هذا الخوف والقلق الألماني المتزايد من فوز ترامب؟
هنالك ثلاثة عوامل رئيسية تخيف الألمان من فوز ترامب بدورة ثانية، حسب محللين غربيين، أولها: الخوف من تجميد ترامب للذهب الذي يخزنه البنك المركزي الألماني (بوندسبانك)، لدى مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي)، في نيويورك ولدى بنك إنكلترا المركزي في لندن.
أما عامل القلق الثاني، فهو استراتيجية ترامب الرامية لتفتيت وتمزيق الكتلة الأوروبية التي أنفقت عليها ألمانيا ترليونات الدولارات وتعتبرها القلعة الرئيسية لنموها التجاري والاقتصادي، ومحاصرة ترامب الشركات الألمانية الكبرى وتمددها التجاري في السوق الأميركي.
والعامل الثالث، حسب المحليين، أن فوز ترامب يعرقل استراتيجية الطاقة الألمانية، خاصة استيراد الغاز الطبيعي من روسيا، وربما تهديد حصولها على النفط وحرمان شركاتها من الحصول على العقود التجارية في بعض دول الخليج التي تقع تحت النفوذ الأميركي المباشر.
على صعيد الذهب، تعد ألمانيا ثاني أكبر الدول من حيث احتياطات الذهب في العالم، إذ يقدر حجم احتياطاتها من المعدن الأصفر بنحو 3366 طناً من الذهب، وفقاً لبيانات مجلس الذهب العالمي، نصفها مخزن في أراضيها، والنصف الآخر مخزن في أميركا وبريطانيا، أي لدى حلفاء الحرب العالمية الثانية.
وحسب الإحصائيات الألمانية، فإن لدى ألمانيا كميات من الذهب تقدر بنحو 1236 طناً، أو ما يعادل 37% من إجمالي احتياطاتها من الذهب، مخزنة لدى فرع الاحتياط الفدرالي في نيويورك، كما لديها 432 طناً من الذهب، أو ما يعادل 13% من إجمالي احتياطاتها، مخزنة لدى بنك إنكلترا في لندن.
وتبلغ كمية الاحتياطات المخزنة في الأراضي الألمانية بنحو 1698 طناً، وبالتالي فإن فوز ترامب ربما سيقود إلى توتر أكبر في العلاقات التجارية وتباين أكبر في استراتيجيات السياسة والأمن تقود إلى اتخاذ الرئيس الأميركي قرارات بتجميد الذهب الألماني مثلما فعلت أميركا من قبل مع إيران في العام 1979 حينما أزاحت الثورة الإسلامية في طهران حليف واشنطن الشاه محمد رضا بهلوي من الحكم.
يذكر أن الذهب كان المعيار الرئيسي لسعر صرف الدولار حتى بداية السبعينيات حينما تخلى الرئيس ريتشارد نيكسون عن سياسة ربط قيمة الدولار بالذهب، بسبب حرب فيتنام التي اضطرت أميركا لتوسيع الكتلة النقدية، وبالتالي تدهورت قيمة صرف الدولار أكثر، خاصة في أعقاب طلب فرنسا تسديد ديون لها على أميركا بالذهب بدلاً من الدولار.
وكان رئيس البنك المركزي الألماني (بوندسبانك)، كارل بليسنغ، وقتها، قد كتب لنظيره رئيس الاحتياط الفيدرالي الأميركي وليام مارتن يطمئنه بأن الذهب الألماني سيظل في المخازن الأميركية.
وعلى الرغم من أن سياسة المعيار الذهبي للدولار انتهت وابتدعت أميركا في أعقاب أزمة المال العالمية في العام 2008 سياسة "التيسير الكمي" بكثافة، التي تعني الطباعة بدون غطاء، فإن الذهب لا يزال أهم عناصر الغطاء الرئيسية للعملات، إلى جانب قوة الصادرات وحجم التجارة التي يمثلها في السلع الرئيسية، مثل النفط والغاز. وبالتالي فإن مخاوف ألمانيا من انتخاب ترامب على ذهبها المخزون تبدو مخاوف واقعية، ومن غير المستبعد أن يعمد رئيس مثل ترامب لا يتسم بالعقلانية لتجميد الذهب الألماني، حسب ألمان.
على صعيد مخاطر إعادة انتخاب ترامب على بقاء الكتلة الأوروبية وتماسكها، فإن ترامب والتيار اليميني الذي يمثله لم يخف خلال السنوات الأربع الماضية نواياه تجاه تمزيق الاتحاد الأوروبي وتقوية التحالف البريطاني الأميركي، ضمن استراتيجية بناء النظام العالمي الجديد.
وأعلن ترامب أكثر من مرة أن الكتلة الأوروبية عدو وليست حليفا لواشنطن. وفي المقابل، تنظر ألمانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي كأكبر سوق لتمدد صادراتها في العالم، وأنفقت على تماسك ووحدة الكتلة الأوروبية أكثر من ترليون يورو لإخراجها من أزماتها المالية والمصرفية. وبالتالي فإن برلين تقيم عداء ترامب للكتلة الأوروبية كحرب مباشرة ضدها.
وقد عمد ترامب إلى سياسة الرسوم الجمركية لعرقلة صادرات ألمانيا والدول الأوروبية لبلاده ضمن استراتيجية "أميركا أولاً"، كما استهدف محاصرة الصناعات والمصارف الألمانية، خاصة صناعة السيارات وصادراتها للولايات المتحدة، كما فرض عقوبات باهظة على شركة "فولكسفاغن" ومصرف "دويتشه بانك"، وهي صناعات تعتمد عليها القوة الاقتصادية الألمانية.
ووفق محللين، فإن محاولة ترامب تمزيق المؤسسات متعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية، سيعمل على إرباك التجارة العالمية، وبالتالي إرباك تجارة الكتلة الأوروبية. ويذكر أن تمزيق ترامب لاتفاقية النافتا وجه ضربة مباشرة لصناعة السيارات الألمانية الفاخرة، مثل مرسيدس وفولكسفاغن وأودي، التي كانت تصنع قطع غيارها بكلف زهيدة في المكسيك وتصدرها دون جمارك للسوق الأميركية.
أما العامل الثالث، فهو مخاوف ألمانيا على إمدادات الطاقة في حال فوز ترامب بدورة جديدة. تعتمد استراتيجية ترامب للطاقة على محاصرة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لأوروبا وتكثيف الضغوط عليها وإجبارها على استيراد الغاز الطبيعي الصخري الأميركي الذي تعيش شركاته في الوقت الراهن صعوبات مالية هددت بإفلاس العديد منها.
ويتركز نزاع الطاقة حالياً حول مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، الذي ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا تحت بحر البلطيق، وتعمل الولايات المتحدة على عرقلة هذا المشروع عبر فرض عقوبات على الشركات المشاركة فيه. وفيما تؤيد ألمانيا المشروع وتنتقد العقوبات، تعارض دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي المشروع خشية من تزايد النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبية.
وربما سيستغل ترامب هذا الخلاف الداخلي بين دول الاتحاد الأوروبي كنافذة لتمزيق التحالف الأوروبي. وتبلغ كلفة نورد ستريم 2، الذي يمد ألمانيا بنحو 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي، نحو 9.5 مليارات يورو (10.6 مليارات دولار)، وتقوم بتمويل نصف المبلغ شركة غازبروم الروسية، وشركات ألمانية وأوروبية.
ولكن مخاوف أمن الطاقة بألمانيا من مخاطر فوز ترامب تمتد إلى أكثر من الغاز الروسي، إذ إن الولايات المتحدة تهيمن على استراتيجية الطاقة في المنطقة العربية الغنية بالنفط، ومن غير المستبعد أن يضغط ترامب على بعض هذه الدول لعدم تصدير النفط لألمانيا، خاصة في أعقاب تطبيع العلاقات بين هذه الدول وإسرائيل، واحتقار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لألمانيا.
يلاحظ أن الشركات الإسرائيلية تعمل على تغيير مسارات النفط العربي من خلال خطة متكاملة في السنوات المقبلة. وسبق أن عانت الشركات الألمانية خلال الأعوام الأخيرة من الحصول على عقود تجارية في السعودية.