شارك المترشِّحون الخمسة للانتخابات الرئاسية في الجزائر وهم رئيسا الوزراء السابقان عبد المجيد تبون وعلي بن فليس ووزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي ووزير السياحة السابق عبد القادر بن قرينة وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب جبهة المستقبل، في أول مناظرة تلفزيونية يوم الجمعة 6 ديسمبر/كانون الأول قبل الانتخابات التي حُدِّد موعدها الخميس 12 ديسمبر بهدف إطلاع المواطنين على برامجهم الانتخابية وفتح شهيتهم للذهاب إلى صناديق الانتخاب.
وتعتبر هذه المناظرة سابقة من نوعها في الجزائر منذ الاستقلال، وذلك استلهاماً من نجاح تجربة المناظرة التلفزيونية لرئاسيات تونس التي تمّت على الطريقة الأميركية.
بداية، افتقرت المناظرة الجزائرية للعديد من الضوابط والمعايير المعمول بها في المناظرات العالمية، كما افتقدت لفنّ المجادلة والتنافس على الأفكار والمناظرة الهجائية، وهذا ما جعل منها مجرَّد اختبار شفوي للمترشِّحين الخمسة الذين لم ينظروا حتى إلى بعضهم البعض. فقد أجاب المرشحون على الأسئلة الموحَّدة التي طرحها أربعة صحافيين حول خططهم السياسية والاقتصادية والبطالة والهجرة والتعليم والصحة والسياسة الخارجية.
لم يأخذ الجانب الاقتصادي من الأسئلة حقه الكافي والوافي لاسيَّما أنّ الأزمة التي تتخبَّط فيها الجزائر اقتصادية بالأساس، فقد فشلت هذه المناظرة في الخروج بحوارات اقتصادية معمَّقة وبعيدة عن سطحية المعلومات وتكرارها ورتابة العرض بسبب طبيعة الأسئلة التي لم تشمل مواضيع مهمة يُسمع فيها رأي المترشِّح وبرنامجه.
ولم تتطرَّق الأسئلة إلى خطط المترشِّحين لوقف التآكل السريع لاحتياطي الصرف الذي يرهق الاقتصاد الجزائري ويقوده بخطى ثابتة نحو قاع الاستدانة الخارجية.
كما خلت المناظرة التي قد ترفع من أسهم بعض المرشحين وقد تُبعد آخرين عن المنافسة نهائياً من الأسئلة التي تشمل برنامج المترشِّحين لوقف تدهور قيمة الدينار الجزائري وخصوصاً أنّ الانخفاض يكون أحياناً متعمداً من السلطة النقدية نتيجة لضغوطات السياسيين لتحقيق أغراض سياسية معينة في ظلّ انعدام استقلالية البنك المركزي.
لقد انحرفت أسئلة المناظرة بعيداً عن استفزاز روح المنافسة لدى المترشِّحين حول التخبُّط الذي شهده تنظيم التجارة الخارجية، وكذا التعامل مع الملفات الاقتصادية الثقيلة وعلى رأسها مصانع تركيب السيارات، وخصوصاً أنّ فريق عمل نظام عبد العزيز بوتفليقة كان له ألف يد في هذه القضية من خلال خرق القانون وتبديد الأموال العمومية ومنح امتيازات غير مشروعة لمتعاملين في مجال تركيب السيارات وإساءة استغلال الوظيفة واللعب على أوتار الفوضى وإطالة مدتها.
وبالتزامن مع محاكمة رئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال و15 متهماً في ملف تركيب السيارات، كان من المفروض أن يسمع الشعب الجزائري آراء المترشِّحين الخمسة حول خططهم المستقبلية للتعامل مع هذا الملف الخطير، هل بإغلاق هذه المصانع وتسريح عمالها وتشويه صورة السوق المحلي أمام المستثمرين الأجانب والعودة لاستيراد السيارات؟ أم من خلال تقديم حلول جديدة تتضمَّن تنظيم هذه الصناعة الاستراتيجية بشكل جديد وفقاً لشروط محددة ومعينة؟
وبالنسبة للأسئلة التي تمحورت حول استرجاع الأموال المنهوبة والمتواجدة في بنوك عالمية، استعمل المترشِّح عبد القادر بن قرينة لغة بسيطة وواضحة جعلته أكثر إقناعاً من خلال كشفه عن نيته في دعوة الشعب إلى المشاركة في استفتاء عام من أجل الموافقة على إطلاق سراح أصحاب المال مقابل تعاونهم لاسترجاع المليارات المنهوبة والمكدَّسة في البنوك الأجنبية، وبدرجة أقل المترشِّح على بن فليس الذي اعترف بصعوبة استرجاع الأموال المنهوبة والمهرَّبة إلى الخارج.
أما البقية فغلب على إجاباتهم طابع الإنشاء والتعبير، فعلى سبيل المثال أسهب ميهوبي في الحديث عن طموحاته باسترجاع تلك الأموال بتعاون المتهمين بتهريبها في عهد بوتفليقة، وهي إجابة تفتقر إلى الدقة في التفاصيل التي تجعل من تلك الخطة قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
ومن جانبه كرَّر المترشِّح عبد المجيد تبون وعده باسترجاع الأموال المسلوبة دون تقديم مزيد من الشروحات والتوضيحات، وكأنّ الأمر سيتم بواسطة عصا سحرية لا تعرف المستحيل أبداً.
وفي ما يتعلَّق بسياسة الدعم ومساندة الفئات المعوزة والفقيرة، كان هناك غياب تام للتفاعل بين المترشِّحين، أو بين المترشِّحين والصحافة عند الإجابة عن هذا السؤال الحساس الذي يعني الكثير للشريحة الكبرى من الناخبين، فقد تمسَّك المترشِّحون بفكرة الدعم المستهدف للفئات الفقيرة ووحده المترشِّح بلعيد عبد العزيز أكَّد على ضرورة إحصاء الفقراء بشكل دقيق بغية إفادتهم بدعم مستعجل، ولكن كالعادة دون التطرُّق إلى ضعف مؤسسات الإحصاء الوطنية العاجزة لحدّ الساعة عن تقديم أحدث البيانات عن الفقر واللامساواة في توزيع المداخيل إلى مائدة النقاش العام.
كما لوحظ النقص الكبير في لغة الأرقام لدى أغلب المترشِّحين الذين لم يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث عن الأرقام المهولة التي وصلت إليها معدلات التضخم والفقر والبطالة في الجزائر، أو إجراء دراسات استقصائية حول ذلك تدعم حملتهم الانتخابية وتقوِّي حجتهم.
ووحده المترشِّح بن قرينة الذي حاول بشكل سطحي ومتجرِّد من الاختصاص قياس معدل التضخم بالاعتماد على الارتفاع الحاصل في مبلغ الزكاة بين السنة الحالية والماضية، علماً أنّ معدل التضخم في الجزائر يُحسب على أساس عينة من حوالي 260 سلعة وخدمة.
يبدو أنّ تلك المناظرة قد فشلت فشلاً ذريعاً في إقناع المحتجِّين المؤيدين للديمقراطية في البلاد بالمشاركة في الانتخابات، فقبل إطلاق الوعود المعسولة بانتقاء الكلمات الرنانة حول الدفاع عن الحريات، كان على المرشِّحين أن يدينوا أولاً الاعتقالات التعسفية والجماعية التي طاولت المتظاهرين في الحراك الشعبي ويحدِّدوا موقفهم بوضوح من قضايا الاعتقال السياسي وحرية الرأي والتعبير.
فالحكم الحكم الرشيد، الضروري في عملية التنمية والانتقال الطاقوي والتوزيع العادل لعائدات النمو الاقتصادي لكافة شرائح المجتمع، والذي يقوم أيضاً على النزاهة والشفافية والمساءلة، يختفي تماماً أمام تقييد حرية الرأي والتعبير، لذلك كان يتوجَّب على المترشِّحين الالتفات من تلك الزاوية إلى الشعب الجزائري الذي ثار وانتفض توقاً للحرية والعدالة والكرامة.
خلاصة القول إنّ مناظرة الجمعة بين المترشِّحين الخمسة للانتخابات الرئاسية الجزائرية تعتبر خطوة إلى الأمام في سبيل إرساء تقاليد جديدة لبعث حياة سياسية تبدأ بإعادة الاعتبار للمنافسة وتطوير الأفكار وترك حرية الاختيار للشعب، ومن الضروري تطوير هذه المناظرة مستقبلاً لتضمّ القضايا والإصلاحات الاقتصادية الهامة.