استراتيجية ترامب في بناء "أميركا العظمى"

24 يناير 2017
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (Getty)
+ الخط -
لا شيء يشغل الساسة وعالم المال والاستثمار في العالم هذه الأيام، سوى توجهات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وتداعياتها المتوقعة على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة وخارجها، ولا أحد يعرف ماذا بعد قراراته الاقتصادية الأخيرة التي وصفها البعض بالانقلاب. 
في هذا التحليل ستحاول "العربي الجديد" سبر أغوار استراتيجية ترامب خلال العام الجاري والتحديات التي ستواجهه.
حسب محللين، يمكن القول إن صعود ترامب للسلطة في أميركا يمثل "نقطة انقلاب كبرى" في الاستراتيجية الأميركية، التي قامت ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الهيمنة من خلال الانفتاح الاقتصادي والتجاري والعولمة ونشر الثقافة الأميركية في عالم المال والصيرفة والتجارة والسينما. إذ إن ما طرحه من مفاهيم "الشعبوية والانغلاق" و"النهج القومي الشوفيني"، يعد مسار تغيير جذري في الاستراتيجية الأميركية، وبالتالي ستكون له تداعيات كبرى في مجريات المال والاقتصاد والجيوبوليتكس، ليس فقد في أميركا ولكن في أنحاء العالم.
وحتى نتمكن من فهم هذا القادم الجديد للبيت الأبيض، لا بد من معرفة ماذا يرمي من وراء مفهوم "أميركا العظيمة" و"أميركا أولاً"، يعني ترامب ببساطة في هذا الاتجاه، إنه يريد أن يعيد المجد الأميركي عبر الثروة الأميركية وتحويل أميركا من دولة مدينة للعالم بحوالى 20 ترليون دولار، إلى دولة دائنة.
ويرى ترامب أن إدارات حكم الرؤساء السابقين، لعبت بمقدرات الشعب الأميركي، حيث قال في خطابه، أن الحكم بات منذ عقود يدار في واشنطن لصالح فئة قليلة من الساسة والطبقات الثرية في واشنطن ونيويورك، ولقد جاء هو ليعيد الحكم للشعب الأميركي ويعيد توزيع الثروة التي تكدست في يد القلة وتركت بقية المجتمع فقيراً.  
وحسب هذه التصريحات، فإن ترامب سيعيد الحكم إلى "الشعب" وسيملّك ثروات البلاد ومقدراتها لجميع المواطنين.
ومثل هذه الدعوات الشعبوية ليست جديدة، وهي جاذبة للعامة والمتظلمين من حكم النخب، لكن كيف سيحقق ترامب ذلك، وما هي الأدوات التي سيستخدمها في تحقيق العظمة الأميركية؟


اسلحة الدولاروالقوة الشرائية

من الواضح أن مبدأ "أميركا أولاً" الذي قال ترامب إنه سيستخدمه في جميع سياساته الخارجية، سواء في مفاوضات التجارة مع الدول أو الشركات الأميركية والأجنبية، سيعتمد بدرجة رئيسية على قوة الدولار وضخامة القوة الشرائية في السوق الأميركي، حيث لا يزال الدولارعملة" الإحتياط الرئيسية" في العالم ويشكل نسبة 64% من إجمالي احتياطات البنوك المركزية حسب بيانات صندوق النقد الدولي الأخيرة.
كما أن السلاح الثاني الذي سيستخدمه لابتزاز الآخرين، هو سلاح الضرائب والجمارك ضد الشركات والدول. وتشير الاحصائيات الأميركية إلى أن القوة الشرائية في أميركا تقدر قيمتها السنوية بحوالى 11ترليون دولار. كما يقدر حجم الاقتصاد الأميركي بحوالى 17 ترليون دولار.
وترى إدارة ترامب، أن القيمة الشرائية الضخمة المتوفرة في السوق الأميركي ستجبرالدول والشركات على الرضوخ لمطالب ترامب. وهذا من حيث المنطق الاقتصادي البحت، أما من حيث التحليل الإجمالي، فلدى ترامب العديد من الأسلحة العسكرية والسياسية التي يستطيع استخدامها في ابتزاز العالم.  
ويلاحظ أن ترامب يتعامل مع أميركا كشركة هو رئيس مجلس إداراتها وليس كدولة، ويقصد ترامب بإعادة المجد لأميركا، جعل البلاد ثرية وقوية، وأنه سيعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية وتحديث البنى التحتية في أميركا وإعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات المختل ورفع معدلات الأجور للطبقة الوسطى وإغلاق الحدود الأميركية أمام المهاجرين الجدد، حتى يتمكن من توفير أكبر عدد من الوظائف للأميركيين. وعلى الرغم من ضخامة وصعوبة هذا البرنامج، لكن خبراء بمعهد "بيترسون" في واشنطن، يعتقدون أنه ليس مستحيلاً.
من جانبه، يرى السياسي البريطاني اليميني المحافظ، جون ريد وود، أن ترامب يرغب في التعامل مع الدول بشكل منفصل ولا يرغب في التعامل مع الكتل الاقتصادية.
ولتحقيق أهداف "أميركا العظيمة"، هدد ترامب في اجتماعه، يوم الاثنين، مع اللجنة الاستشارية التي كوّنها من رؤساء مجالس الإدارة لثماني شركات كبرى، الشركات الأميركية التي لا تتجاوب مع مطالبه، حيث قال بأنه سيعمل على مكافأة الشركات الأميركية التي تنتج في أميركا، وسيعاقب الشركات الأميركية التي تنتج في الخارج.


ابتزاز الدول والشركات

يسعى ترامب إلى فرض "ضريبة حدودية" ضخمة على البضائع التي تعبر إلى بلاده، أي على البضائع المصدرة إلى أميركا.
وحسب خبراء في معهد "بيترسون" الأميركي للدراسات الاقتصادية، فإن هذه الضريبة تقدر بحوالي 35%، كما أقر بمرسوم رئاسي إعادة التفاوض بشأن اتفاقية نافتا، التي أسست منطقة تجارة حرة بين أميركا وكندا والمكسيك.
كما ألغى اتفاقية "تي بي بي"، وهي اتفاقية الشراكة التجارية بين أميركا ودول الباسيفيكي، وهي اتفاقية جرى التفاوض حولها بين أميركا وحلفائها في آسيا وأستراليا، وكانت تستهدف أساساً تقوية النفوذ الأميركي في آسيا وربط المصالح الأميركية في آسيا بالهيمنة التجارية الأميركية لتحجيم المد الصيني في القارة الصفراء.
وبالتالي، فإن إلغاء هذا الاتفاق، سيغضب العديد من حلفاء أميركا في آسيا، وعلى رأسهم اليابان، ولكن يبدو أن استراتيجية ترامب بنيت على عدم التعامل مع الكتل التجارية، حسب السياسي البريطاني ريد وود،  سواء كانت هذه الكتل في آسيا أو أوروبا.  فترامب يرغب في توقيع اتفاقيات تجارية منفردة مع كل دولة من دول العالم. وهو بذلك مثل الذئب الذي يريد أن ينفرد بالغنم، بدلاً من مواجهة القطيع بأكمله. 
من هذا المنطلق، فهو يرفض التعامل مع دول الاتحاد الأوروبي، الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وينتقد بشدة سياسات المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التي تعد زعيمة الاتحاد الأوروبي، ويميل لترتيب البيت الأوروبي عبر التنسيق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهذا ما يقلق دول الاتحاد الأوروبي.
وحسب خبراء بمعهد "بيترسون"، فإن ترامب لن يجد صعوبة في إعادة التفاوض بشأن اتفاقية النافتا، حيث أنها تضم كل من كندا والمكسيك. وهي دول تابعة تجارياً للولايات المتحدة، حيث ترتبط المصالح التجارية لكلا الدولتين بالسوق الأميركي.
وبالتالي فمن الصعوبة بمكان لكلا الدولتين، إيقاف تجارتهما مع أميركا،حتى لو قررتا ذلك، إلا بعد فترة من الزمن حتى ولو وجدت السوق البديل.
على صعيد اتفاقية نافتا، من الواضح أن ترامب لن يجد صعوبة في إعادة التفاوض مع كندا، حيث لا توجد خلافات تجارية تذكر بين كندا وأميركا.
أما على صعيد الدولة الأخرى في الاتفاقية وهي المكسيك، فمن غير المتوقع أن تتمكن الحكومة المكسيكية من مقاومة المطالب الأميركية، لأن حجم الاستثمارات الأميركية والأجنبية التي توجد في المكسيك، خاصة شركات السيارات وشركات تصنيع قطع الغيار التي تتخذ من البلاد مقراً لها، تستهدف بالدرجة الأولى السوق الأميركي، وبالتالي، فإن الحكومة المكسيكية ستخضع لابتزاز ترامب في النهاية، وإن لم تفعل ذلك فستخسر تجارياً.
وربما تتمكن من المساومة على بعض النقاط الخاصة بخفض ضريبة الحدود وعدم معاقبة بعض الصناعات، لكن ترامب يستطيع أن ينتزع في النهاية ما يريده من المكسيك.
أما على صعيد اتفاقية الشراكة عبر الباسيفيكي، فإن هذه الاتفاقية لم تمرر بعد في الكونغرس وبالتالي لم يتم تفعيلها ولم تدخل حيز التنفيذ. ومن هذا المنطلق، فإن إلغاءها لن يكون مؤثراً على المجريات التجارية في أميركا، لكن سيكون لها تأثير خطير على حلفاء أميركا في آسيا الذين كانوا يحلمون باتخاذها كمظلة من هجير السطوة والنفوذ الصيني  المتزايد في القارة.


الحرب الباردة
على الصعيد الخارجي، يعمل الرئيس ترامب على إحياء الحرب الباردة عبر سياسة" إحتواء بكين"هذه المرة وليس موسكو. ومن هذا المنطلق يمكن فهم الغزل والكلام الناعم المتبادل بينه وبين الرئيس السوفيتي فلاديمير بوتين. ويبدو أن الصين فهمت الرسالة، وردت عليها بشكل غير مباشر.
ويلاحظ في هذا الصدد،  أن صحيفة "الشعب" الصينية، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، انتقدت، في عددها الأحد، النظام الرأسمالي، دون أن تسمي أميركا، وقالت "إن الديمقراطية الغربية وصلت إلى نهايتها، وأن سقوط النظام الرأسمالي بات حتمياً"، وهو ما يشير إلى المواجهة المحتملة بين بكين وواشنطن.
ولا يخفى على بكين أن ترامب يرغب في ترتيب "النظام العالمي الجديد" مع بوتين وعزل بكين تدريجياً، كما فعلت واشنطن خلال الحرب الباردة حينما تعاملت معها لإضعاف الإمبراطورية السوفييتية.
ولكن غزل ترامب وبوتين لا يقف عند حدود الصين وآسيا، وإنما يتعداها لمنطقة الشرق الأوسط، خاصة المنطقة العربية، حيث عين الرئيس ترامب إدارة يغلب عليها طابع الطاقة، بدءاً بوزير الخارجية ريكس تيلرسون الرئيس التنفيذي السابق لشركة اكسون موبيل. ويرى مراقبون أن الرئيس ترامب، يطمع في التفاهم مع الرئيس بوتين بشأن أمن الطاقة العالمي، خاصة بشأن إيران التي يهددها بالغاء الاتفاق النووي والعراق الغنية بالنفط.

المساهمون