إما أن يجلس أصحاب القرار في مصر، ويتفقوا على ما يقولونه من أرقام، خاصة إذا ما كان الأمر يتعلق بموازنة دولة وأمور اقتصادية حساسة، وإما أن يفوضوا واحداً منهم ليخرج علينا برقم واحد وقول واحد وفاصل، حتى لا يسببوا لأنفسهم الحرج ويثيروا علامات استفهام لا داعي لها، أما أن يخرجوا علينا بأرقام عدة ومتناقضة في قضية واحدة، فهذا ما لا يقبله عقل ولا منطق.
والأرقام التي ذكرها كبار المسؤولين عن حجم المساعدات الخليجية التي تلقتها مصر، منذ وقوع الانقلاب في 3 يوليو/تموز 2013 حتى الآن أكبر دليل على ذلك.
نحن هنا أمام ثلاث روايات وأكثر من ثلاثة أرقام، وهي كلها تطرح علامات استفهام، وعلى متخذي القرار الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة حتى لا يثير القيل والقال، وقبل أن يندفع بعضهم إلى القول إن هذه الأموال لم تدخل أصلا الموازنة العامة، أو أن يترك لبعضهم الآخر إطلاق الخيال لعنانه في أن يتصور أن هذه الفارق في الأرقام، هو عبارة عن أموال تم نهبها ولم تدخل مصر أصلا.
الرواية الأولى بطلها المشير عبد الفتاح السيسي، حينما قال يوم 7 مايو/أيار 2013 إن المساعدات الخليجية لبلاده، ليست "12 ولا 15 ولا 20 مليار دولار، أتكلم عن أموال فقط، أكثر من 20 مليار دولار".
هذا ما قاله الرجل نصّاً، وطبقاً لروايته هو يتحدث عن 20 مليار دولار مساعدات نقدية فقط، لا تدخل ضمنها المساعدات النفطية التي تقدر بمليارات الدولارات أيضا، وهذا التصريح يخص مساعدات خليجية مقدمة لمصر، منذ يوليو/تموز، وحتى شهر مايو الماضي، أي أن هذا الرقم لا يأخذ في الاعتبار المساعدات الخليجية الجديدة التي تلقتها مصر خلال الأشهر الستة الأخيرة.
ورقم 20 مليار دولار الذي ذكره السيسي هو رقم واقعي، لأن السعودية والإمارات والكويت تعهدت بتقديم مساعدات قدرها 12 مليار دولار، عقب عزل الرئيس محمد مرسي في يوليو 2013 مباشرة، وذلك على شكل منح وودائع في البنك المركزي ومساعدات بترولية.
وبقيت 8 مليارات دولار أخرى تم تقديمها من الدول الخليجية الثلاث في الفترة من يوليو 2013 وحتى موعد الانتخابات الرئاسية في مايو 2014.
ورقم 20 مليار دولار الذي تحدث عنه السيسي يمكن أن يكون قد ارتفع إلى نحو 30 مليار دولار حالياً، وبعد مرور ستة أشهر على التصريح، فمن المعروف أن الكويت حولت منذ أيام مليار دولار منحة لا ترد، والسعودية تقدم لمصر مساعدات عينية في شكل مشتقات بترولية مجانية بقيمة تتراوح ما بين 600 إلى 700 مليون دولار شهريا، ما يعني أن المساعدات السعودية تجاوزت 4.2 مليار دولار، منذ مايو وحتى الآن.
أما عن الإمارات فقد نقلت وكالة رويترز يوم 31 أغسطس /آب 2014 عن مسؤول في الهيئة المصرية العامة للبترول قوله إن الإمارات اتفقت بشكل مبدئي على تزويد مصر بجزء كبير من احتياجاتها البترولية حتى سبتمبر/أيلول 2015 بقيمة 8.7 مليار دولار.
الرواية الرسمية الثانية المتعلقة بحجم المساعدات الخليجية لمصر، بطلها وزير التخطيط المصري أشرف العربي الذي قال يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إن الدعم الخليجي لبلاده "تجاوز بمراحل مبلغ 20 مليار دولار، وأن هناك أشياء كثيرة لا تقال"، وقد قلت في مقال سابق إن كلمة "بمراحل" لا تعني أن الرقم 21 مليار دولار، ولكن قد تعني 30 مليار دولار، وربما أكثر، لأن الرجل لم يستخدم كلمة نحو أو حوالي.
أما الرواية الثالثة وهي الأغرب، فهي رواية وزارة المالية المصرية، فأمس 8 نوفمبر/تشرين الثاني، قال وزيرها هاني قدري، إن دول الخليج قدّمت مساعدات ومنح نقدية وعينية لمصر خلال العام المالي الماضي 2013-2014 بلغت نحو 10.6 مليار دولار أو ما يعادل نحو 74 مليار جنيه، منها 53 مليار جنيه في صورة منتجات بترولية، بالإضافة إلى ما يعادل 21 مليار جنيه منحًا نقدية.
ويوم 6 يوليو/تموز الماضي، أكدت وزارة المالية نفسها خلال عرض البيان المالي للموازنة الجديدة 2014- 2015 حصول مصر على مساعدات خارجية من دول الخليج، في صورة منح وودائع ومواد بترولية بلغت نحو 16.7 مليار دولار خلال العام المالي الماضي 2013-2014.
وقبلها بأيام أيضا قال مسؤول بارز في وزارة المالية، إن جملة المساعدات العربية لمصر ارتفعت إلى 21.03 مليار دولار، بعد إضافة ثلاثة مليارات دولار دعما إماراتيا لمشروع الإسكان الاجتماعي في مصر.
نحن هنا لسنا أمام رقمين متناقضين أو ثلاثة بل أكثر، وعلى الحكومة أن تقول لنا: ما هو السبب وراء تناقض أرقام المساعدات الخليجية لمصر؟ خاصة ونحن لا نتحدث عن فارق قدره مليون دولار أو حتى عشرة ملايين، بل عن فارق يزيد على عشرة مليارات دولار أي ما يعادل 70.2 مليار جنيه.
ولتقل لنا الحكومة: أين ذهبت كل هذه المليارات من الدولارات؟ ولماذا لم يتم إدراجها كلها في الموازنة العامة للدولة، إذ إن ما تم إدراجه 10.6 مليار دولار، طبقا لكلام وزير المالية، وليس 21 مليار دولار.