واصلت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا صعودها للجلسة الثالثة على التوالي، أمس الاثنين، مع استمرار الإضرابات العمالية في بعض منشآت تصدير الغاز الأسترالية، ما يعكس هشاشة السوق الأوروبية رغم التطمينات التي أبداها المسؤولون الأوروبيون حيال المخزونات وتجاوز الصدمة التي تعرضت لها القارة الباردة العام الماضي في أعقاب انحسار الإمدادات الروسية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط 2022.
وصعدت العقود المستقبلية المعيارية لأسعار الغاز بما يصل إلى 7.2%، أمس، لتتخطى 35.8 يورو لكل ميغاواط في الساعة (وحدة قياس أوروبية) في أمستردام، وسط مخاوف من قفزات أكبر في الأيام المقبلة حال تصعيد العمال إضرابهم الذي بدأ يوم الجمعة الماضي بتعطيل العمل تدريجياً وصولاً إلى إيقافه تماماً، الخميس المقبل، حال عدم استجابة شركة شيفرون العالمية لمطالبهم بزيادة الأجور وتحسين بيئة العمل، ما يشكل تهديداً على المنشآت التي زودت الأسواق بـ7% تقريباً من إمدادات الغاز الطبيعي المسال العالمية خلال العام الماضي.
يأتي الارتفاع المتتالي للأسعار بعدما أدى التلويح بالإضراب سابقاً إلى إثارة مخاوف سوق الغاز الأوروبية لأكثر من شهر، ما تسبب بدوره في تقلبات واسعة، وسلط الضوء على اعتماد العالم الكبير على تدفقات الوقود، لا سيما أن صادرات الغاز النرويجية عبر خطوط الأنابيب ما تزال مضطربة بسبب أعمال الصيانة في المنشآت الرئيسية بالبلاد، حيث جرى تمديد أعمال الصيانة الأوسع نطاقاً في حقل ترول العملاق حتى اليوم الثلاثاء.
ولا تلوح في الأفق بوادر حل بين النقابات العمالية في أستراليا وشركة شيفرون، ما دعا الشركة إلى الاستنجاد بهيئة تنظيم العمل للمساعدة في حل نزاعها مع العمال في منشأتي "غورغون" و"ويتستون"، وفق ما نقلت نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة، أمس.
وبينما فشلت شيفرون في التوصل إلى اتفاق مع العمال، تمكنت "وود سايد" النفطية الأسترالية، وهي الشركة المشغلة لأكبر منشأة للغاز الطبيعي المسال في أستراليا، نورث ويست شيلف، من إبرام صفقة وتجنب الإضراب.
ورغم أن أوروبا مليئة بالمخزون الجيد لفصل الشتاء، ونادراً ما تتلقى الوقود من أستراليا، إلا أن تخفيضات الإمدادات الروسية في العام الماضي تركت القارة الباردة معرضة بشدة للتحولات في سوق الغاز العالمية. وإذا استمرت الإضرابات، وقيّدت شحنات الوقود إلى آسيا، فسيتنافس المشترون هناك مع أوروبا على شحنات بديلة.
وقال توم مارزيك مانسر، رئيس تحليلات الغاز في هيئة أبحاث سوق الطاقة والكيميائيات المستقلة في لندن إنه "إذا استمر الإضراب لمدة أسبوعين، فسيؤدي ذلك إلى إزالة مليون طن من الغاز الطبيعي المسال من السوق العالمية"، مضيفا في تصريحات لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية "حتى مع دخول أوروبا فصل الشتاء بمخزونات عالية للغاية، فإن هذا التخفيض المحتمل في الإمدادات يؤدي إلى تضييق الخناق على سوق الغاز العالمية التي تظل متوازنة للغاية".
وتضمنت خطة الإضراب إيقاف العمل بين ساعتين و4 ساعات في مواقع الإنتاج المختلفة في الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري، يجري زيادتها تدريجياً لتصل إلى 10 ساعات في بعض المواقع في 13 سبتمبر/أيلول.
ووفقاً لوثائق قالت وكالة بلومبيرغ الأميركية إنها اطلعت عليها، حذرت النقابات العمالية شركة "شيفرون" من أنه في حال لم يتوصل الإضراب التدريجي، إلى اتفاق بحلول 14 سبتمبر/أيلول، ستتوقف فعلياً صادرات الغاز الطبيعي المسال، مع توقف العمال عن العمل تماماً لمدة أسبوعين.
ولوحت النقابات بأن العمال سيتوقفون عن تسهيل رسو الناقلات أو السفن، والامتناع عن تحميل السفن بشحنات الغاز الطبيعي المسال أو المكثفات، والتوقف عن إصلاح الأعطال أو إعادة تشغيل بعض المعدات، بما في ذلك تلك المستخدمة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال.
ونقلت صحيفة فايننشال تايمز أخيراً عن ميغ أونيل المديرة التنفيذية لـشركة "وود سايد" الأسترالية، قولها إن الارتفاع الحاد في أسعار الغاز الطبيعي الأوروبية الناتجة من المخاوف المتعلقة بالإضراب العمالي في أستراليا يعد علامة واضحة على هشاشة السوق.
وأقرت المفوضة الأوروبية للطاقة كادري سيمسون في بيان، نهاية أغسطس/آب الماضي، بأن "سوق الغاز لا تزال حساسة"، على الرغم من تأكيدها أن أمن الطاقة في القارة "في وضع أكثر استقراراً بكثير مما كان عليه في هذا الوقت من العام الماضي".
ويبدأ موسم الشتاء في المنطقة رسمياً من أكتوبر/ تشرين الأول ويستمر حتى مارس/آذار. ويمكن أن يغطي التخزين ما يصل إلى ثلث طلب الاتحاد الأوروبي على الغاز في موسم التدفئة، وفقاً للمفوضية الأوروبية.
وعلى الرغم من أن أسعار الغاز الأوروبية أقل بنسبة 90% تقريباً من ذروتها في العام الماضي 2022، فإنّ توتر السوق والتقلبات الشديدة أمور موجودة لتبقى، نظراً لأن الإمدادات العالمية لا تزال شحيحة، بحسب وكالة بلومبيرغ.
وذكرت نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة مؤخراً أن "المشكلة التي لا يريد السياسيون الأوروبيون التحدث عنها هي أنه طالما أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على الغاز الطبيعي المسال، فإنّ أسعار الطاقة لن تنخفض كثيراً لسبب بسيط للغاية، وهو أن الغاز المسال لا يمكن أن يكون رخيصاً مثل غاز خطوط الأنابيب".
وكانت أسعار الغاز في أوروبا قد وصلت إلى مستوى غير مسبوق، خلال أغسطس/ آب 2022، عند 340 يورو لكلّ ميغاواط/ ساعة (99 دولاراً لكلّ مليون وحدة حرارية بريطانية)، مع إغلاق أنبوب "نورد ستريم 1" الذي ينقل الغاز الروسي، وتوقف بعض محطات تصدير الغاز المسال في أميركا وأستراليا بسبب الطقس السيئ.
وحذر محللون من أن الشتاء المقبل قد يكون أسوأ بكثير بالنسبة لأوروبا إذا عاد الطلب الآسيوي بقوة، بخاصة الصيني، واشتدت المنافسة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية لجذب المزيد من إمدادات الغاز المسال.
وتوقعت وكالة الطاقة الدولية في تقرير مؤخراً ارتفاع استهلاك الغاز الطبيعي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى 923 مليار متر مكعب خلال 2023، بعد تقديرات بنحو 895 مليار متر مكعب في 2022، بقيادة الصين، التي من المرجح أن تشهد زيادة 20 مليار متر مكعب في الطلب، ليسجل 390 مليار متر مكعب.
وأكد خبراء ودبلوماسيون جدية دول الاتحاد الأوروبي في تشكيل تحالفات مع الدول المنتجة للغاز في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، لضمان ديمومة تدفقات الغاز، ضمن مساعي الاستغناء عن الغاز الروسي، الذي انخفض بشدة إثر اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وكذلك الفكاك من القبضة الأميركية، حيث فرض الغاز الأميركي المسال نفسه كبديل للغاز الروسي.
وقال أكسل بيريو نائب الرئيس للمعرفة والتحليل في مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، في ندوة عقدها المركز المصري للدراسات الاقتصادية في القاهرة، نهاية الأسبوع الماضي، بالتعاون مع المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) ومركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، إن أوروبا كانت تستورد كميات كبيرة من الغاز من روسيا، وأصبحت حالياً تستورد من الولايات المتحدة نحو نصف احتياجاتها من هذه السلعة.
بدوره، قال ميكاليس ماتيولاكيس المدير الأكاديمي لمنتدى الطاقة اليوناني في الندوة التي جاءت بعنوان "من الخليج إلى البحر المتوسط: هل تظهر تحالفات أو تكتلات جديدة من أجل الطاقة والمناخ؟"، إن الاتحاد الأوروبي وقع في قبضة الولايات المتحدة لأنها أصبحت المورد البديل للغاز الروسي منذ اندلاع الحرب، مشيرا إلى ضرورة أن ينقذ الاتحاد الأوروبي نفسه بمصادر غاز بديلة.
في السياق، نوه باولو ماغري نائب الرئيس التنفيذي للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية الذي ترأس الندوة، إلى توقيع دول الاتحاد الأوروبي 221 اتفاقية للغاز الطبيعي مع دول من الشرق الأوسط، بهدف تعزيز التعاون الثنائي بين أوروبا ودول المنطقة في هذا المجال، مشيرا إلى أن مصر تعتبر من أبرز اللاعبين في سوق الطاقة بالمنطقة بالتوازي مع دوري الجزائر وقطر.