لا يتوقف مسؤولو الحكومة المصرية عن إبهارنا بتصريحاتهم الرنانة عن قوة الاقتصاد المصري، ونجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تم إعداده بناء على توصيات صندوق النقد الدولي سيئ السمعة، حتى ليظن السامع أنهم يتحدثون عن الاقتصاد السويسري أو الياباني، بينما نرى الأغلبية الكاسحة في الشوارع المصرية وقد نال منها الفقر، وقرصها الجوع، ولم يبقها على الحياة إلا الاستدانة والمساعدات القادمة من المعارف.
وفي دراسة أعدها الجهاز المركزي للإحصاء، وهو جهة رسمية تابعة للحكومة المصرية، منتصف العام الحالي ظهر أن أكثر من نصف الأسر المصرية لجأ إلى الاستدانة من الأصدقاء والأقارب من أجل مواجهة نقص الدخل، وأن 36% من الأسر لجأت إلى تقليل كمية الطعام في الوجبات، فضلاً عن تقليل 19.8% من الأسر لعدد الوجبات الغذائية اليومية. وأشارت الدراسة إلى أن هذه النسب ترتفع في مدن وقرى الريف بصورة أكبر مقارنة بالمناطق الحضرية.
وفي الوقت الذي كانت الحكومة المصرية تتشدق فيه بنجاحاتها الاقتصادية، أكدت دراسة الجهاز المركزي للإحصاء من واقع أرقام ميدانية حقيقية أن 5.4% من الأسر حصلت على منحة العمالة غير المنتظمة من صندوق غير تابع للموازنة العامة للدولة تم إنشاؤه في أعقاب ثورة يناير / كانون الثاني 2011، بقيمة 500 جنيه (أقل من 32 دولاراً) في الشهر لمدة ثلاثة أشهر، بينما حصل 17.3% من الأسر على مساعدات من أهل الخير (الجمعيات الخيرية)، وباع 1.5% من الأسر جزءاً من ممتلكاته للوفاء باحتياجاته.
ورغم الأرقام المحبطة التي تعرفها بالتأكيد الحكومة المصرية، ظهر وزير المالية محمد معيط الأسبوع الماضي على شاشات التلفاز ليؤكد من جديد أن اقتصاد البلاد يملك من الجاهزية ما يجعله مستعداً حال ظهور الموجة الثانية من كورونا، كاشفاً عن أن رئيس الجمهورية طالب بتخصيص مبالغ جديدة احتياطية للموجة الثانية من الفيروس، وكأن الوزير لا يعرف أن الموازنة التي وقع هو شخصياً عليها تعاني من عجز يقترب من نصف تريليون جنيه.
وقال الوزير في لقاء متلفز إن الوضع الاقتصادي "المستقر" لمصر في ظل جائحة كورونا دفع صندوق النقد الدولي لتعديل توقعاته (إلى أعلى) لنمو الاقتصاد المصري! مضيفاً في تعليق لا تسمعه إلا من هاوٍ أنه "تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على تحقيق معدلات نمو تتراوح بين 2.8% إلى 3.5%، متوقعاً تحقيق معدل 3.3% خلال العام المالي الحالي.
حديث الوزير وزملائه من الحكومة المصرية عن ارتفاع معدلات نمو الاقتصاد المصري، وانفراده بين كافة الأسواق الناشئة ودول الشرق الأوسط وقارة أفريقيا بتحقيق معدل نمو إيجابي، بينما يعاني المواطن المصري المتوسط من انخفاض دخله، ويزداد عدد المصريين الواقعين تحت خط الفقر، ويرتفع عدد من ينتقلون من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الدنيا كل يوم، يبعث على الألم ويثير الكثير من الشكوك حول حقيقة الأرقام والبيانات الصادرة عن حالة الاقتصاد في مصر.
لا يغرنك ما يُصَدَّر إلينا من مشاهد بناء المباني الحكومية الرائعة والحدائق المزهرة والنافورات الجميلة في العاصمة الإدارية الجديدة، فملايين المواطنين يعيشون في مناطق عشوائية، ولا تتوفر لهم الخدمات الأساسية من مياه صالحة للشرب أو صرف صحي أو كهرباء في كثير من الأوقات.
ولا تخدعنك اللقطات الساحرة التي رأيناها في مهرجان الجونة، فهي ليست أكثر من فيلم سينمائي لعشرات أو مئات الفنانين، بينما لا يقدر الملايين من فئات الشعب "العادية" على تحقيق أبسط أحلامهم في الهروب من حر الصيف، ولو لأيام محدودة، إلى أقل الشواطئ تكلفة في بلدٍ يمتد بطول حدوده الشمالية البحر المتوسط، ويزين حده الشرقي البحر الأحمر.
ولا تبهرنك مبادرات تقديم المساعدات الطبية للدول الصديقة، التي تقترض منها حكومة مصر مليارات الدولارات، حيث يعاني 99% من أفراد الشعب للعثور على سرير في مستشفى يستطيع تحمل تكلفة العلاج فيه، بينما تفرض وزارة الصحة على المعامل عدم تقديم أي شهادات مكتوبة أو إيصالات استلام نقدية عند التأكد من إصابة المواطن بالفيروس، حيث أن البنية الصحية في البلاد لا يمكنها التعامل مع الأرقام الحقيقة لإصابات المواطنين، وهو ما دعا الحكومة إلى تبني مبدأ "عالج نفسك بنفسك".
ورغم دعاوى القوم والغلواء عن قوة الاقتصاد المصري، أظهر تقرير للبنك الدولي أن مصر كانت أكبر مقترض في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عام 2019، إذ استحوذت على ما يقرب من 34% من إجمالي ديون المنطقة. وفيما يبدو أنه استمرار لنهج الحكومة خلال العام الماضي، أظهرت بيانات حكومية ارتفاع الدين الخارجي المصري لأكثر من 123 مليار دولار بنهاية يونيو / حزيران الماضي، مسجلة زيادة بأكثر من 80 مليار دولار خلال السنوات السبع الماضية، لتقترب من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في نهاية عام 2013.
لا تقنعني أرقام الحكومة المصرية عن أداء الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة، ولا أثق في شهادة صندوق النقد الدولي الذي يُعد تقاريره شركاء للنظام المصري الحالي، ينجحون بنجاحه، ولا يعنيهم فشل سياساته وسياساتهم في رفع مستوى معيشة المواطن.
الحكومة والصندوق سعيدان بمعدلات النمو التي تحققت، رغم أنهما أول العارفين أنها غير ناتجة عن زيادة إنتاج سلع أو خدمات، وإنما كانت انعكاساً لتخفيض الدعم ورفع أسعار الكهرباء والماء والوقود ورغيف العيش ومئات الخدمات الحكومية وتحصيل المزيد من الضرائب ورسوم التصالح مع المخالفين في البناء.
تشير بيانات الحكومة إلى تحقيق معدلات نمو تتجاوز 5% في كل ربع سنة تقريباً من السنوات الثلاث الأخيرة، بزيادة تقدر بما يقرب من 15 مليار دولار كل عام، هي بالصدفة نفس الزيادة (أو أقل) التي شهدناها في مستويات الدين الخارجي تقريباً في كل عام من الأعوام الثلاثة أخيرة، الأمر الذي جعل النمو الذي شهده الاقتصاد المصري لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يسمح لغالبية الشعب بحياة كريمة تغني بلدهم عن سؤال اللئيم.