لأول مرة منذ 15 عاماً، تربعت خلالها "وول ستريت" على عرش أسواق المال العالمية بلا منازع، يُتوقع أن تتخلف الأسهم الأميركية عن الركب لتصعد الأسهم الدولية الأخرى، لا سيما الآسيوية بقيادة الصين، التي كسرت قيود مواجهة فيروس كورونا، وأطلقت خططاً لإنعاش الأسواق. وقال "بنك أوف أميركا" في تقرير له إن تفوق الأسهم العالمية المتوقع بسهولة على نظيرتها الأميركية في 2023، يرجع إلى سبعة أسباب رئيسية، كفيلة بأن يفضل المستثمرون الأسهم الدولية على سوق المال الأميركية لتنويع محافظهم.
يأتي الركود المتوقع للاقتصاد الأميركي الناجم عن السياسة النقدية المتشددة لبنك الاحتياط الفيدرالي، عبر رفع أسعار الفائدة للسيطرة على معدلات التضخم، في صدارة الأسباب السبعة.
كما توقع البنك الأميركي انخفاض الدولار العام الجاري مع انحسار التوترات الجيوسياسية العالمية، وتنويع الحكومات والمستثمرين من العملة الاحتياطية، بينما قد تتصاعد التوترات السياسية في الولايات المتحدة، ما يكون له آثار سلبية على العملة الأميركية وسوق المال.
أما السبب الثالث الذي يجعل من الأسهم الدولية أكثر جاذبية للمستثمرين، فهو الإفراط في تعرض الولايات المتحدة لأسهم التكنولوجيا، ففي الربع الأخير من العام الماضي كانت أسهم التكنولوجيا تستحوذ على 40% من الأسهم الأميركية، بينما هذه النسبة تبلغ 19% في الأسواق الناشئة، و13% في اليابان، و7% في أوروبا.
وأشار البنك الأميركي إلى استفادة أسواق المال في الدول المستوردة للنفط أكثر من تراجع أسعار الطاقة المتوقع هذا العام، حيث يزيد ذلك من انتعاش اقتصاداتها كسبب رابع، بينما ستواجه الولايات المتحدة ركوداً، فضلاً عن فرض ضريبة بنسبة 1% على إعادة شراء الأسهم في السوق الأميركية، والتي توقع البنك ارتفاعها في السنوات المقبلة، بينما قامت الشركات بدلاً من المستثمرين بدعم سوق الأسهم الأميركية خلال الـ 15 عاماً الماضية عبر إعادة شراء الأسهم، حيث تمتعت السوق بعمليات إعادة شراء بقيمة 7.5 تريليونات دولار منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
والسبب السادس الذي يجعل من الأسهم الدولية أكثر جذباً من الأميركية، هو مغادرة المزيد من رؤوس الأموال لـ"وول ستريت" بعد الخسائر المسجلة خلال العام الماضي، بينما يؤدي إعادة فتح الصين إلى سحب البساط من أميركا، إذ يتوقع انتعاش أسهم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ليكون السبب السابع في تفوق الأسهم الدولية على نظيرتها الأميركية، وفق "بنك أوف أميركا" الذي قال في مذكرته، بحسب موقع "بيزنس انسايدر" الأميركي، إن "الخروج السريع للصين من سياسة صفرـ كوفيد سيطلق العنان لسنوات من المدخرات الاحترازية لتعزيز الاستهلاك المحلي"، مضيفاً أن من المتوقع أيضاً أن يقوم البنك المركزي الصيني بتيسير الأوضاع المالية، مع إعادة فتح اقتصاد الدولة بالكامل.
ويقود التفاؤل القادم من الصين الأسهم الآسيوية لمكاسب قوية، إذ ارتفع مؤشر "هانغ سنغ" في هونغ كونغ بنسبة 1.6%، أمس الاثنين، وصعد مؤشر كوسبي في كوريا الجنوبية بنسبة 2%، وزاد مؤشر أستراليا ASX 200 بنسبة 0.6%.
وقال جو شوكينغ، سكرتير الحزب الشيوعي في بنك الشعب الصيني، في مقابلة مع صحيفة الشعب اليومية، يوم الأحد: "سوف ينتعش النمو الاقتصادي الصيني بسرعة ويعود إلى مساره الطبيعي، حيث تقدم بكين المزيد من الدعم المالي للأسر والشركات لمساعدتها على التعافي، بعد أن أنهت سياسة صفر كوفيد الخاصة بها".
في السياق، قالت روبال أغاروال، المحللة في شركة "سانفورد سي برنشتاين" للاستشارات في سنغافورة، في مقابلة مع وكالة بلومبيرغ الأميركية: "ستكون إعادة فتح الصين أكثر إيجابية بالنسبة لأسواق آسيا وتحديداً الصين"، مضيفة أن خسائر 2022 سيجري تعويضها بشكل حاد هذا العام، "لذلك نفضل المزيد من الصين وكوريا وتايوان".
وكان مؤشر "هانغ سنغ تشاينا إنتربرايزيز"، الذي يقيس أداء أسهم الشركات الصينية المدرجة في بورصة هونغ كونغ، قد أنهي عاماً ثالثاً من التراجع في 2022، مسجلاً أطول موجة خسائر سنوية منذ بدء العمل به في 1994. وجاء التراجع العام الماضي مصحوباً بزيادة في التقلبات تعتبر الأسوأ منذ الأزمة المالية العالمية، والأكثر حدة بين مؤشرات البورصات الرئيسية الكبرى على مستوى العالم. وبلغت الخسائر المجمعة للأسهم المتداولة في البر الرئيسي وهونغ كونغ، 3.9 تريليونات دولار.
لكن خبراء الأسواق يقولون إن 2023، يبدو أنه سيكون عاماً أفضل، حيث وضعت السلطات إنعاش الاقتصاد على رأس قائمة أولوياتها، وزادت من جهود إنقاذ قطاع العقارات المتعثر، مشيرة كذلك إلى زيادة الدعم للمؤسسات الخاصة.
وقال زيكاي شين، رئيس أسواق الأسهم الآسيوية والعالمية الناشئة في "بي إن بي باريبا أسيت مانجمنت" إن "القيم المتواضعة للأسهم والمراكز الاستثمارية الخفيفة للمستثمرين، والأساسيات الجيدة، تشكل عوامل حماية، من شأنها أن تساعد الأسهم الآسيوية على تحمل التقلبات في المدى القريب".
ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد الصين بمعدل 4.8% خلال 2023، في وقت تتصدى فيه الاقتصادات الكبرى الأخرى حول العالم للتهديد المزدوج المتمثل في التضخم المرتفع والنمو المتباطئ.
في المقابل توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو اقتصاد الولايات المتحدة بنحو 1% العام الجاري مقابل 1.7% العام الماضي و5.7% في 2021. وتترقب الأوساط الاقتصادية الأميركية، وكذلك العالمية، تقرير التضخم لشهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، المقرر إعلانه، يوم الخميس المقبل.
وستكون أرقام أسعار المستهلكين، من بين آخر القراءات التي يطّلع عليها صنّاع السياسات النقدية قبل اجتماعهم في يومي 31 يناير/كانون الثاني الجاري و1 فبراير/شباط، الذي سيتخذون فيه قرارهم بشأن أسعار الفائدة، وهو أول اجتماع في دورة تعيين جديدة للأعضاء الذين يحق لهم التصويت.
ويتوقع المحللون الاقتصاديون زيادة قدرها 25 نقطة أساس في أسعار الفائدة القياسية للاحتياط الفيدرالي، برغم أن المسؤولين أشاروا إلى احتمال أن تكون الزيادة بمقدار نصف نقطة مئوية. ومن المحتمل أن يُظهِر مؤشر أسعار المستهلكين، ارتفاع التضخم الأساسي بمعدل 5.7%، مقارنة بما كان عليه قبل عام، وفق بلومبيرغ.
وستكون تلك أعلى قراءة للفترة الممتدة لـ12 شهراً من ديسمبر/كانون الأول منذ عام 1981. وعلى الرغم من أنها أعلى بكثير من المستوى الذي يستهدفه البنك الفيدرالي، وتساعد صناع السياسة النقدية في تبرير الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة لفترة أطول، لكنها تشير إلى نمو معتدل في الأسعار، مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق.
وتوقع مصرف "جي بي مورغان" أخيراً أن يواصل البنك الفيدرالي زيادة الفائدة المصرفية حتى الربع الأول من العام الجاري لتصل إلى 5%، ثم يتوقف عن رفع الفائدة في بداية الربع الثاني من العام.
وعلى المستثمرين في سوق الأسهم الاستعداد لمزيد من النكسات خلال 2023، بعد طي صفحة الخسائر المسجلة في العام الماضي، وفق تحذيرات أطلقها استراتيجيون كبار في بنكي "مورغان ستانلي" و"غولدمان ساكس" وغيرهما، ممن يحذرون من انخفاضات جديدة للأسهم في النصف الأول من العام الجاري، مع تعرض أرباح الشركات لمخاطر تراجع النمو الاقتصادي، والتضخم المرتفع للغاية، وسط سياسات نقدية بالغة التشديد من البنوك المركزية.
أما النصف الثاني من العام المقبل، فقد يشهد ارتفاعاً للأسهم بمجرد توقف البنك الفيدرالي عن رفع أسعار الفائدة كما وعد، لكنه غالباً سيكون ارتفاعاً ضعيفاً، إذ سيبقي مؤشرات الأسهم مرتفعة بنسب متواضعة فقط، مقارنة بما كانت عليه نهاية 2022. وأظهر استطلاع أجراه "بنك أوف أميركا" أخيراً أن مديري الصناديق يتوقعون تدهور توقعات الأرباح العام المقبل.
وأنهت الأسهم الأميركية أسوأ أعوامها 2022 منذ عام 2008، الذي شهد ذروة الأزمة المالية العالمية، في المنطقة الحمراء، حيث اقتربت خسائر مؤشر "إس آند بي 500"، الأكثر تعبيراً عن السوق من 20%.
وقال آرت هوغان، محلل أول السوق في شركة "بي رايلي ويلث" بحسب بلومبيرغ: "لم نشهد أبداً بيئة مثل هذه في الأسواق من قبل، حيث تنخفض كل من الأسهم والسندات في الوقت نفسه.. أما الأنباء السيئة فهي أن 2023 ربما ستكون سنة مضطربة وعصيبة أيضاً، على الأقل خلال الأشهر القليلة الأولى منها".