أدى هبوط الجنيه الإسترليني على خلفية خطة الحكومة الاقتصادية الجديدة وتصريحات وزير الخزانة البريطاني، كواسي كوارتينغ، بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق، إلى وضع الحكومة أمام خيارات صعبة خلال الأسبوع الجاري حتى تتمكن من الإفلات من حافة الانهيار الاقتصادي.
وواجهت العملة البريطانية منذ يوم الإثنين عمليات بيع مكثفة، كما تدافع المستثمرون نحو بيع أدوات الدين الرئيسية وعلى رأسها السندات الحكومية.
وحسب خبراء اقتصاد بمصرف "أي أن جي" الهولندي، فإن هنالك خمسة خيارات كانت متاحة للتعامل مع انهيار العملة البريطانية، وهي رفع كبير وسريع في سعر الفائدة المصرفية، أو اللجوء إلى شراء السندات الحكومية من السوق، أو التراجع عن سياسة خفض الضرائب ودعم الإنفاق الحكومي، أو الحصول على برنامج تمويلي كبير من صندوق النقد الدولي، أو وضع ضوابط على حركة رأس المال.
ومن بين هذه الخيارات الصعبة لجأ البنك المركزي البريطاني، "بنك إنكلترا"، لدعم الجنيه الإسترليني عبر التدخل في السوق وشراء السندات الحكومية.
وبحسب اقتصاديين فإن الخيار شراء السندات هو الأفضل، حيث لدى "بنك إنكلترا" خطوط ائتمان مفتوحة دائمة وغير محدودة مع مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي"، تمكنه من الحصول على تمويلات بالعملة الأميركية عبر عمليات المقايضة بين الدولار والإسترليني في ما يطلق عليه بلغة النقد "عمليات سواب".
وهذه العلاقة القوية مع مجلس الاحتياط الفيدرالي ستمكنه من التدخل في السوق لشراء السندات وتطمين البنوك الاستثمارية في أية لحظة. وتم تصميم هذا الاتفاق الخاص بالتبادل النقدي بين الدولار والعملة البريطانية لتمكين بريطانيا من مواجهة أية أزمات في ميزان المدفوعات أو النقص في السيولة الدولارية.
وعلى هدى رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر التي حكمت بريطانيا في الثمانيات قررت ليز تروس عدم التراجع عن خطة خفض الضرائب وزيادة الإنفاق واللجؤ إلى البنك المركزي البريطاني لدعم الإسترليني وسوق السندات والأدوات المالية، عبر إقراره مساء يوم الثلاثاء برنامجا ضخما لشراء السندات الحكومية أجل 20 عاماً أو أكثر بقيمة 65 مليار جنيه إسترليني عبر مزادات يومية قيمتها 5 مليارات وتستمر لمدة 13 يوماً بدأت منذ يوم الأربعاء.
وفي أول اختبار للسوق ضخ بنك إنكلترا يوم الأربعاء قرابة مليار دولار في شراء السندات، ما أدى إلى استقرار سعر صرف العملة البريطانية ووقف المضاربات عليها. وأعلن محافظ البنك المركزي البريطاني أندرو بيلي يوم الأربعاء أن البنك جاهز للتدخل في السوق للدفاع عن الإسترليني والسندات الحكومية.
وحسب خبراء في سوق المال البريطاني، ساهمت هذه المشتريات في استقرار سعر الإسترليني أمس في حدود 1.08 دولار ومقابل العملات الرئيسية الأخرى وعلى رأسها اليورو، وبالتالي هدأت المضاربات في سوق السندات والصرف في بريطانيا والولايات المتحدة.
في هذا الشأن قال كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ، كالوم بيكرينغ، إن التدخل بمثابة تذكير للمضاربين بأنه من غير المجدي محاربة بنك مركزي مثل "بنك إنكلترا"بعملته الخاصة، مشددًا على القوة النقدية التي في يد البنك.
وكانت نصائح المستثمرين وبعض كبار خبراء الاقتصاد، ومن بينهم البروفيسور ووزير الخزانة الأميركي الأسبق لاري سمرز، قد نصحوا بنك إنكلترا الإثنين الماضي بأن يلجأ لرفع أسعار الفائدة وبنسبة كبيرة تصل إلى 200 نقطة أساس على الأقل.
وكانت هذه النصائح سترفع من الخسائر التي تكبدها الاقتصاد البريطاني حتى الآن، والتي قدرت بنحو نصف تريليون دولار منذ منتصف الشهر الجاري الذي تولت فيه رئيسة الوزراء ليز تراس الحكم. ولكن السياسي البريطاني المخضرم من حزب المحافظين، جون ريد وود، نصح بنك إنكلترا بعدم الوقوع في مصيدة الفائدة واللجوء لزيادة الاستثمارات في الاقتصاد لرفع النمو.
ويرى خبراء أن الرفع الكبير في سعر الفائدة كان سيدخل الاقتصاد البريطاني في دورة "الركود التضخمي"، ويفتح شهية المضاربين للرهان أكثر، وربما يقذف الإسترليني في عين "عاصفة المضاربات" الخطرة التي سبق أن شهدها في العام 1989.
وذهب خبراء آخرون إلى التحذير من أن أزمة انهيار الإسترليني ربما تدخل "النظام النقدي" العالمي في أزمة شبيهة بالتي مر بها في منتصف الثمانينيات، واضطرت الدول الكبرى لعقد مؤتمر "اتفاق بلازا" في نيويورك لمعالجة الارتفاع الكبير في سعر الدولار مقابل العملات الرئيسية.
في هذا الشأن، استبعد الخبير الاقتصادي الأميركي الحائز جائزة نوبل بول كروغمان، حدوث أزمة عالمية، وقال "لا، لن يتسبب انهيار الإسترليني في أزمة عالمية، حيث لا تمثل بريطانيا سوى 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي".
وأضاف في تعليقات نقلها موقع "باوند ستيرلنغ" اللندني، أنه رغم أن الأسواق البريطانية في حالة من الفوضى وهنالك حاجة للهدوء، ولكن الطريق طويل لأن يتسبب انهيار الإسترليني في أزمة.
ووفق محللين ماليين فإن تدخل بنك إنكلترا يوم الثلاثاء في سوق السندات الحكومية يعد واحداً من المعالجات الوقتية للأزمات الرئيسية التي يعاني منها الاقتصاد، لكنه ليس خياراً ناجعاً على المدى الطويل، وربما تعود صناديق الاستثمار والتحوط لمطاردة السندات والمضاربة على الإسترليني في نهاية الربع الجاري أو بعد انقضاء فترة برنامج شراء السندات، حيث إن بنك إنكلترا يتجه لزيادة الفائدة في الشهور المقبلة وسط الارتفاع في الديون الحكومية، وبالتالي سيدفع ذلك إلى مزيد من الخسائر لخدمة الديون.
ويتوقع محللون أن تبلغ خسائر بريطانيا نحو 32 مليار دولار سنوياً من زيادة خدمة الديون الحكومية.
ورغم بحث البنك المركزي البريطاني عن حلول سريعة لاحتواء أزمة الإسترليني تواصلت الانتقادات لخطة الحكومة البريطانية، حيث اتهم محافظ بنك إنكلترا السابق، مارك كارني، الحكومة بـ "تقويض" المؤسسات الاقتصادية الرئيسية في المملكة المتحدة، مشيرًا إلى أن إجراءات الحكومة تتداخل مع عمل البنك المركزي.
وقال كارني في حديثه مع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنه بينما كانت الحكومة محقة في رغبتها في تعزيز النمو الاقتصادي، إلا أن هناك فجوة بين اليوم والوقت الذي قد يأتي فيه هذا النمو.
وأضاف أن الميزانية المصغرة للحكومة أظهرت أنها تعمل على بعض الأهداف المتداخلة مع عمل البنك في ما يتعلق بالدعم قصير الأجل للاقتصاد.
كما أوضح كارني أن الحكومة قررت عدم نشر التوقعات الاقتصادية لمكتب مسؤولية الميزانية "أو بي آر" عندما أعلنت عن الميزانية المصغرة الجمعة الماضية، الأمر الذي ساهم في تأجيج الاضطرابات في الأسواق المالية، إذ إن هذا التقرير يوفر تنبؤات مستقلة لتأثير خطط الحكومة على الاقتصاد وكذلك على المالية العامة.