بينما كنت أقلب الصفحات بحثاً عن معلومات سكانية من أجل كتابة هذا المقال، وقعت عيني على موقع PRB، والذي وجدت أنه يرمز إلى Pharmaceutical Research Branch أو فرع البحث الدوائي، والذي يقدم لشركات الأدوية دراسات عن أوضاع الأسواق وتقلباتها، وعن الأمراض السارية وأماكنها.
ولكن ما استهواني لم يكن هذه البحوث التسويقية، بل دراسة إحصائية تحليلية عن عدد سكان العالم منذ بدأ الانسان أو النوع الإنساني (homo sapiens) يدب على هذه الأرض بمواصفاته الجسدية الحالية.
وبحسب الدراسة، فإن الإنسان كما يعرف الآن ظهر منذ 220 ألف سنة، وقد مرت عصور ودهور قبل أن يصل عدد البشر إلى مليار نسمة. حيث قدرت الدراسة التي أجريت عام 1995 أول مرة أن هذا حصل عام 520 بعد الميلاد، ولكن الموت الأسود (الطاعون) أهلك كثيرين.
وبموجب الإحصاءات السكانية عبر التاريخ والتي فاز عليها أستاذ الاقتصاد الشهير سايمون كوزنتس (S. Kuznets) بجائزة نوبل العام 1971، فقد ذكر أن أوروبا كانت تخسر في بعض السنوات (40%) من سكانها بسبب الطاعون، بخاصة خلال الفترة 1352-1347، علماً أن المملكة المتحدة واسبانيا وفرنسا خسر كل منها ما يقارب 50% من سكانها في تلك الفترة.
واعتمدت الدراسة عدداً من الفرضيات التي بنت عليها تقديراتها لعدد المواليد في العالم. وفي عام 1995 قدرت دراسة PRB أن عدد المواليد حتى نهاية عام 1995 بلغ 105 مليارات نسمة. أما دراسة عام 2022، فتؤكد أن هذا العدد ارتفع إلى 117.020.448.575 نسمة، وبمعنى آخر فإن عدد المواليد قد ارتفع بين العامين 1995 و2022 بمقدار يقارب 8 مليارات نسمة، أو ما يساوي 6.83%.
أي أن البشرية أنجبت خلال أول 219.983 سنة 105 مليارات نسمة، بينما أنجبت 8 مليارات خلال السبعة عشر سنة الأخيرة. وهذه طبعاً أرقام مذهلة. وتجعل الإنسان يتوقف ويحك رأسه مراراً ويتساءل: كيف وصلت الدراسة إلى هذا الرقم الدقيق (117.020.448.515) أو عدد المواليد منذ 220 ألف سنة؟
هذه الطفرة في عدد السكان هي مسؤولة عن الضغط على الموارد في الطبيعة، وعن إنتاج الحاجات الأساسية من طعام وطاقة وماء وأرض ومناخ ومعادن وتربة وهواء وغيرها.
وبحسب الدراسات، فإن الاستخدام المكثف للطاقة الأحفورية hydro carbons هو الذي خلق ما سمَّوه يوماً green-house effect، والتي رفعت درجة حرارة الأرض فغيرت المناخ، وذوبت مصادر الجليد في القطبين، وخلقت الكوارث الطبيعية. وبحسب ما يقولون لنا، فإن هذا العام 2023 قد يشهد أعلى درجات حرارة عرفتها البشرية.
ولذلك صار التفكير الجاد في التخلص من الكربون، فتاره يبنون في المحيطات جدراناً من حجر الكلس يزرعون تحتها أعشاباً قابلة للنمو السريع فتمتص جزءاً كبيراً من الكربون الموجود في البحار والناتج عن ارتفاع نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء أو من مخلفات البلاستيك وغيره والتي تُقذف في البحار والمحيطات، وهكذا يمتصون جزءاً كبيراً منه.
وبحسب تقرير خاص لمحطة سي أن أن، هناك محاولات لجمع الغاز الكربوني من الهواء، ووضعه في مكثفات ضخمة وتحويله من غاز إلى مادة صلبة على شكل قضبان من الكربون الصخري، والذي يدفن في أماكن خاصه به.
وهي عكس العملية الطبيعية التي حصلت على مدى سنين طويلة حينما حولت عناصر الطبيعة الكربون الصلب إلى سائل أو إلى غاز يستخدمه البشر. أما الآن فإن البشر يأخذون الغاز الناتج عن حرق مصادر الطاقة الهيدركربونية بصفتها الصلبة والسائلة والغازية، ويحولونها باستخدام أجهزة تكثيف خاصة إلى مواد صلبة تدفن في أماكن عانت من التسمم البيئي، فاسْتُخدمت مقابر لهذا الكربون.
وتسمى عمليات استزراع بعض الأعشاب ورميها في المحيطات لكي تمتص الكربون في الماء، وعمليات إعادة تحويل غاز الكربون إلى مادة صلبة، وسائل تقليد الطبيعة أو وسائل محاكاة الطبيعة Biomimicry، أو "المحاكاة البيولوجية"، وهذا الاصطلاح له معانٍ وتجليات تطبيقية كثيرة متعددة. ويرى البعض فيه فرصة لكي نستفيد من فهمنا للبيولوجيا الحيوية لكي نسرع في محاولات إعادة التوازن الطبيعي إلى الأرض التي أفسدناها نحن البشر بمغالاتنا في الاستهلاك.
ومن الأمثلة للحفاظ على البيئة هو التوسع في الزراعة والتحريج أي زراعة الأشجار، وأذكر أن حزب الخضر في ألمانيا قد وجد ضالته من أجل الترويج لأفكاره في ما سُمي في ثمانينيات القرن الماضي بالمطر الحامضي Acid rain، حيث إن انتشار الغازات الضارة مثل ثاني أكسيد الكربون وأول أوكسيد الكبريت في فضاء ألمانيا تسبب في تلويث المطر الذي يحمل هذه الغازات ويمطرها على أشجار الغابات.
وقد وجد أن الغابة السوداء Schwarzwald هي التي عانت أكثر من غيرها، حيث بدأت الأشجار تمرض وتشيخ ولا يخضر ورقها كما كان، وحيث إنها تضم مناطق هامة لأغراض السياحة، وبسبب قربها من مياه نهري الراين والدانوب، فقد أعطى الألمان كثيراً من اهتمامهم للحفاظ عليها.
وقد بدأنا نشهد أن التركيز قد بدأ يتحول تدريجياً لإنتاج سلع تشبه السلع الطبيعية بدون تربية حيوانية على النطاق الواسع الذي يشهده العالم. ويشير موقع سيغما ∑ (The World Counts)، إلى أن هناك ساعة تحدد مقدار الأطنان التي تستهلكها الكرة الأرضية من اللحوم كل سنة.
وحتى صباح يوم السبت الماضي (الساعة الحادية عشرة بتوقيت عمان/ الأردن)، سجلت تلك الساعة في اليوم الموافق السابع عشر من يونيو/ حزيران، أنّه بلغ حجم اللحم المستهلك في العالم ما يقارب 159 مليون طن عام 2023، علماً أن تقديرات الموقع نفسه للاستهلاك العالمي السنوي للحوم تبلغ 350 مليون طن.
ويقال إن إنتاج كميات من العلف لإنتاج اللحوم، وكذلك التخلص من فضلات الذبح والسلخ، تعتبران من أهم مفسدات البيئة في العالم. ولذلك فإن نظام المحاكاة البيولوجية قد أخذ منحى آخر وهو إنتاج لحوم من النباتات وتعطي الطعم نفسه، وتطبخ بالطرق نفسها. وقد بدأ العالم يقدم هذه الوجبات في مطاعم خاصة.
وهناك أمثلة كثيرة على المحاكاة البيولوجية إما بتقليدها للطبيعة، أو بعكسها للعملية البيولوجية (reversing)، أو بالاستفادة من خلق منتجات بديلة للسلع التي تؤثر على البيئة سلباً. ولكن بعض الدراسات تثير نوعين من المخاوف حول الموضوع.
الأول هو أن هذه الطريقة، خاصة لإنتاج المواد الغذائية، غير قابلة للاستمرار، وليس بالضرورة أن فوائدها ستبقى متفوقة على سلبياتها، والخوف الثاني هو من أنها قد تؤدي إلى خلق مشكلات جديدة، إذا تمادينا في استخدامها، لم تكن لتخطر على بالنا حتى يقع المحظور. ولكن دراسات أخرى تبدي تفاؤلاً أكبر.
وبحسب مقال نُشِر يوم 26 مايو/ أيار 2022 على موقع Learn Biomimicry والموسوم "ثورة المحاكاة البيولوجية: الاستفادة من أسرار الطبيعة من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة"، يبرز الترابط الكبير بين المحاكاة الطبيعية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة عن طريق تبيان وتطوير الاستمرارية الاقتصادية economic sustainability والاستمرارية البيئية environmental sustainability، وأخيراً الاستمرارية الاجتماعية social sustainability.
ومع أن المقال مختصر إلا أنه يضع مصفوفة لوسائل ربط الاستمرارية والبقاء بالقيم الاقتصادية والاجتماعية، والحفاظ على البيئة التي تؤدي الممارسات الاحتكارية والتفاوت الطبقي في الدخول والثروات إلى تعطيل الاستمرارية والإيذاء بالثروات الطبيعية.
التجارب الإنسانية طويلة الأجل علمتنا أن الإنسان يفرح عندما يكتشف أمراً مهماً أو يحل معضلة أساسية عن طريق التكنولوجيا واستخداماتها. وسنرى أنه مجَّدَ في يوم من الأيام استخدام النفط بدل الفحم الحجري، والطاقة النووية بدل الأحفورية، والمبيدات لزيادة الإنتاج، والكثير من الأمثلة. لكنه سرعان ما يكتشف أنّ لهذه أضراراً فادحة. والخوف الكبير أن يأتي يوم يبرز نظام يقول إن كثرة البشر هي السبب، فما هو الحل، هل هي الحروب والآفات؟