راهنت الحكومة اللبنانية والمصرف المركزي على عنصر الوقت في تهدئة مخاوف المودعين المتصاعدة وامتصاص غضبهم بشأن أموالهم المحتجزة منذ خريف العام 2019، وخسر هؤلاء الرهان، والدليل إطلاق حملة واسعة لتحرير الودائع أمس والتي صاحبها تكسير واجهات البنوك وأجهزة الصراف الآلي وإشعال النار في محيطها.
وراهن آخرون على إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي يتيح الحصول على قروض ومساعدات دولية ضخمة، تكون بداية لحلحلة الوضع المالي المتأزم في البلاد وزيادة السيولة الدولارية ووقف تهاوي الليرة، وبالتالي سداد جزء من أموال المودعين، وقبلها إعادة الأموال الهاربة في بيوت اللبنانيين لخزائن البنوك، وخسر هذا الطرف الرهان في ظل تعثر المفاوضات مع الصندوق، وقبلها تعقد المشهد السياسي، وعدم اختيار رئيس للدولة وحكومة منتخبة.
في حين راهن طرف ثالث على خطة حكومية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي المنهار ووقف نزيف خسائره وتمرير قانون الكابيتال كونترول، ويبدو أن الخطة لم ولن ترى النور في ظل تخلي مؤسسات الدولة عن دورها في حماية أموال المودعين وحفظ سمعة القطاع المصرفي.
الحكومات اللبنانية المتعاقبة كانت سببا رئيسيا في إعلان إفلاس الدولة وحدوث الانهيار المالي والاقتصادي الكبير
كما أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة كانت سببا رئيسيا في إعلان إفلاس الدولة وحدوث الانهيار المالي والاقتصادي الكبير، حيث راحت تغترف القروض الدولارية من الخارج وبأسعار فائدة مرتفعة وطوال سنوات، وهو ما مثل إرهاقا شديدا للقطاع المصرفي وميزانية الدولة.
ما أجهض الرهان الأخير أيضا هو عدم حدوث توافق رسمي بشأن كيفية توزيع خسائر البنوك بين الدولة والبنك المركزي والمصارف، ورفض المودعين تحمل أي نسبة من الخسائر لأنهم لم يكونوا سببا فيها.
أما المودعون فلم يراهنوا على أي شيء بعد أن فقدوا الثقة تماما في الحكومة والبنك المركزي والبنوك نفسها، التي واصلت فرض قيود غير قانونية على عمليات السحب والتحويلات بالدولار، وواصلت احتجاز أموال المودعين قسرا. بل حاولت أطراف حكومية تحميل أصحاب المدخرات مسؤولية خسائر البنوك باقتطاع نسبة كبيرة من ودائعهم "وشقى عمرهم".
كل ما راهن عليه المودعون هو استخدام القوة، والقوة وحدها، في تحرير ودائعهم وأموالهم الدولارية المحتجزة منذ مدة طويلة.
وطوال فترة تزيد عن 3 سنوات رفعوا شعار "نريد أموالنا بأي ثمن"، وأمس الخميس، خرج مئات المودعين والناشطين متجهين نحو مقار البنوك وفروعها لتحقيق هدف واحد، هو استرداد أموالهم المنهوبة والتي تمت قرصنتها من قبل القائمين على القطاع المصرفي منذ الانهيار المالي في 2019، حتى لو جاء ذلك عن طريق محاولة حرق مقار الفروع وتحطيم واجهات البنوك وإشعال الإطارات أمامها، والاعتداء على المصرفيين، وهو ما حدث بالفعل.
زاد من تعمق أزمة ثقة المودعين الملاحقات القضائية التي يتعرض لها كبار مسؤولي ومديري وموظفي البنوك
ببساطة، المودعون فقدوا الأمل في استرداد أموالهم بالطرق السلمية والدعاوى القضائية، وقبلها فقدوا الأمل في استرداد القطاع المصرفي سمعته التي تلوثت بشدة بعد أن لاحقت الاتهامات الجسيمة رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المتهم من قبل القضاء اللبناني والأوروبي بالتورط في شبهات غسل أموال ونهب المال العام وتهريب أموال إلى الخارج وتأسيس شركات وهمية في الخارج لتهريب الأموال من خلالها.
زاد من تعمق أزمة ثقة المودعين الملاحقات القضائية التي يتعرض لها كبار مسؤولي ومديري وموظفي البنوك، حيث تم طلب رفع السرية المصرفية عن نحو 500 مصرفي، بينهم رؤساء مجالس إدارة ومدراء عامون ورؤساء تنفيذيون يعملون في عدة مصارف.
حتى التظاهرات أمام البرلمان ومقار البنوك والتحركات الدبلوماسية والقضائية لم تفلح في تحرير ودائع أصحاب الأموال، بل أثبتت التجارب نجاح مودعين في استرداد أموالهم المحتجزة من خلال الهجوم المسلح على مقار البنوك وفروعها بالقوة.
السؤال هنا: هل لدى القطاع المصرفي اللبناني سيولة دولارية لتلبية مطالب المودعين الغاضبين.
بالطبع لا، فالقطاع يعاني من أزمة سيولة دولارية طاحنة بعد أن فقد أصحاب المدخرات ثقتهم في القطاع منذ 2019، وبالتالي جفت مصادر السيولة إلا ما ندر. كما أن السوق السوداء باتت هي المسيطرة على سوق الصرف، حيث سحبت السيولة الدولارية من البنوك.
الحكومة والبنك المركزي من جانبهما لا يملكان أي أوراق لتهدئة مخاوف المودعين المتصاعدة والإفراج عن الأموال المحتجزة، بعد أن تجاوزت خسائر القطاع المصرفي اللبناني 130 مليار دولار، وصندوق النقد والمؤسسات الدولية تتلكأ في تقديم قروض للبنانيين، ودول الخليج عازفة عن تقديم مساعدات بحجة سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة اللبنانية، وفرنسا التي وعدت أكثر من مرة بتقديم مساعدات بمليارات الدولارات غارقة في أزماتها الاقتصادية والمالية.
والانهيار الاقتصادي داخل لبنان، الذي صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ عالميا منذ 1850، يتعمق يوماً بعد يوم، وهو ما يعني أن أزمة الودائع المحتجزة ستتصاعد خلال الفترة المقبلة، ليس فقط من قبل المودعين اللبنانيين، لكن من قبل أصحاب الودائع الضخمة في الخارج، وفي مقدمتهم العراقيون والسوريون والخليجيون والإيرانيون، وهي الودائع التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.