معركة الأجور... تونس بين شروط صندوق النقد ومطالب النقابات

24 يناير 2021
مشهد من احتجاجات تهز تونس منذ نحو أسبوع للمطالبة بالتوظيف وتحسين الرواتب (Getty)
+ الخط -

بدت الحكومة التونسية في مرمى صندوق النقد الدولي والنقابات العمالية في آن واحد، فإدارة الصندوق تطالب بحزم ضبط كتلة الأجور المتزايدة وكبح الدعم، قبل السماح بإقراض الدولة المثقلة بالعجز المالي والديون، بينما يشهد الشارع حراكاً متصاعدا للمطالبة بالتوظيف وتحسين المعيشة، الأمر الذي يزيد صعوبة المفاوضات التي تقدم عليها الحكومة في الجهة المقابلة لإقناع النقابات العمالية باتفاق يجمد الأجور لضبط الموازنة وإرضاء صندوق النقد.

وحذّر صندوق النقد، يوم الجمعة الماضي، الحكومة التونسية، من أن العجز في الميزانية قد يرتفع إلى أكثر من 9% من الناتج المحلي الإجمالي، في حال غياب إجراءات ضبط كتلة الأجور والدعم، لاسيما الموجّه إلى الطاقة.

وتأتي مطالب الصندوق، بينما تهز تونس احتجاجات عنيفة منذ نحو أسبوع للمطالبة بفرص عمل وتنمية اقتصادية، وسط ضائقة اقتصادية غير مسبوقة في الدولة التي شهدت مهد ثورات الربيع العربي قبل نحو 10 سنوات.

وبينما اتسمت مفاوضات الاقتراض مع صندوق النقد، خلال السنوات الماضية، بالمرونة في القبول باشتراطات الصندوق أو رفض وإرجاء بعضها، إلا أن الظروف الاقتصادية والمالية العصيبة التي خلفتها جائحة فيروس كورونا، قد تجبر تونس هذه المرة على الرضوخ لمطالب الصندوق، وفق مسؤولين حكوميين ومحللين اقتصاديين.

في هذه الأثناء، تسعى حكومة هشام المشيشي إلى تمهيد الأرضية، عبر تحييد جبهة النقابات العمالية عبر الوصول إلى اتفاق مع الاتحاد العام التونسي للشغل، يقضي بتجميد الأجور لعامين قادمين بهدف خفض كتلة الرواتب وترميم المالية العمومية، لاسيما أن الحكومة تحتاج إلى تعهّد من الاتحاد بالموافقة على هذه الخطوة قبل الدخول في مفاوضات صعبة مع صندوق النقد للحصول على تمويل جديد.

وتعاني المالية العامة التونسية من وضع صعب للغاية، حيث تشير التقديرات إلى بلوغ العجز المالي 11.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، وهو الأعلى منذ ما يقرب من أربعة عقود. بينما تهدف ميزانية 2021 إلى خفض العجز المالي إلى 6.6%، لكن صندوق النقد الدولي قال في بيان عقب زيارة لتونس إن العجز قد يتجاوز 9%، وهناك حاجة إلى إجراءات محددة لدعم هذا الهدف.

وتضاعفت فاتورة الأجور في تونس إلى نحو 20.1 مليار دينار (7.45 مليارات دولار) في 2021، من 7.6 مليارات دينار في 2010، بزيادة بلغت نسبتها 164%.

وأكد المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة عبد السلام العباسي لـ"العربي الجديد" أن حكومة المشيشي ستبدأ الإصلاحات الاقتصادية، من بينها إصلاح نزيف المالية العمومية الذي يتطلب إعادة ترتيب النفقات، ومن بينها نفقات الأجور، لافتا إلى أن عزم الحكومة على هذه الإصلاحات يأتي بغض النظر عن مطالب صندوق النقد، خاصة في ظل عدم قدرة البلاد على احتمال مزيد من التأخير والحاجة الملحّة لتغيير السياسات الاقتصادية.

وأضاف العباسي أن مفاوضات مطولة جرت بين مسؤولين حكوميين والاتحاد العام التونسي للشغل حول ملف الإصلاحات، مؤكدا "حرص النقابات العمالية على بدء الإصلاح، أكثر من أي وقت مضى".

وأشار إلى أن اتحاد الشغل يبدي تفهما لرغبة الحكومة في وضع سياسة إصلاحات متدرجة تنهي مسار التعثر الاقتصادي الذي تواصل لسنوات عديدة.

وقبل عامين، وقّع الاتحاد العام التونسي للشغل آخر اتفاق لزيادة الأجور مع حكومة يوسف الشاهد، حصل بمقتضاه موظفو القطاع الحكومي البالغ عددهم نحو 670 ألف موظف، على زيادات تم صرفها على ثلاث شرائح امتدت إلى عام 2020.

وتوصلت المركزية النقابية حينها إلى الاتفاق، بعد مفاوضات ماراثونية مع الحكومة، تخللها إضرابان عامان حاشدان نفذتهما النقابات. وبلغت كلفة آخر زيادة في الأجور أكثر من 800 مليون دينار، بحسب بيانات رسمية.

وكان يفترض أن تدخل النقابات العمالية في إبريل/نيسان الماضي في مفاوضات جديدة حول زيادة الأجور، في إطار مفاوضات الزيادات الدورية التي يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل كل عامين، غير أن جائحة كورونا أجّلت هذه المفاوضات التي لم تعلن المركزية النقابية عن موعدها الجديد.

ولا تبدو تصريحات مستشار رئيس الوزراء عن قبول اتحاد الشغل بتجميد الرواتب سيكون سهلاً. إذ قال المتحدث الرسمي باسم الاتحاد، سامي الطاهري، إن "الاتحاد يتمسك بتحسين رواتب الموظفين"، مضيفا أن "مفاوضات زيادة الأجور حق مكتسب لن يتم التنازل عنه".

وأضاف الطاهري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الاتحاد لم يقدم أي التزام بشأن الموافقة على تجميد زيادة الرواتب، غير أنه يمكن أن يقبل التفاوض حول آليات يمكن أن تعوض الزيادة، ومن بينها خفض الضرائب المفروضة على الدخول وتجميد الأسعار، بما يساعد على الحفاظ على توازن القدرة الشرائية للطبقات الشغيلة (العاملة)".

وتابع أن "النقابات العمالية لن تسمح بأي قرارات يمكن أن تضر مصالح العمال أو تزيد في إنهاكهم اقتصاديا واجتماعيا".

ويحتاج قرار تجميد الأجور إلى أجواء اجتماعية وسياسية أكثر هدوءاً، بحسب الخبير الاقتصادي محمد منصف الشريف، مرجحا أن تكون الهدنة الاجتماعية من بين الملفات التي ستناقش في الحوار الوطني الذي اقترحه الاتحاد العام التونسي للشغل أخيراً.

وأكد الشريف لـ"العربي الجديد" أن تجميد الأجور يتطلب أيضا إجراءات مرافقة اجتماعية لتخفيف الأعباء المعيشية على الطبقة الوسطى التي سجلت تراجعاً حادًا في قدراتها الشرائية، لا يقل عن 30% في السنوات الأخيرة.

ورجح الخبير الاقتصادي أن تهيئ الحكومة الأرضية لقرار تجميد الأجور عبر إجراءات جبائية واجتماعية قد تنص عليها في قانون الموازنة التكميلي الذي ستعرضه على البرلمان في الأشهر القادمة.

ويستمر عجز السلطات التونسية عن احتواء كتلة الأجور لعام إضافي، بعد تسجيل زيادة بنحو 217 مليون دينار (79 مليون دولار) هذا العام، في ظل لجوء الحكومات المتعاقبة بعد 2011 إلى عمليات توظيف تحت ضغط الاحتجاجات، من دون وجود موارد مالية كافية.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، صادق البرلمان على قانون يقضي بالانتداب المباشر لحاملي الشهادات الجامعية ممن طالت بطالتهم أكثر من 10 أعوام. وقال رئيس الحكومة إن الدولة ستلتزم بكل الاتفاقات الموقع عليها، في ما يتعلّق بصرف الزيادات في الأجور وتسوية الوضعيات المهنية الهشة.

لكن التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد يحتّم وضع حد لانفلات كتلة الأجور وكبح الدعم، خاصة الموجه للمحروقات، وهي ملفات شائكة تنذر بتأجج الاحتجاجات الحالية.

وتصل نفقات الدعم إلى 3.4 مليارات دينار، منها 2.4 مليار دينار لدعم الغذاء، و401 مليون دينار لدعم المحروقات (الوقود)، و600 مليون دينار لدعم النقل، وفق موازنة 2021.

ويمثل الاقتراض الجانب الأكبر من التمويل في موازنة 2021، وفق رصد لـ"العربي الجديد"، حيث تنوي الحكومة اقتراض حوالي 19.5 مليار دينار (7.22 مليارات دولار) من السوقين الداخلية والخارجية، بما يعادل 37% من إجمالي الموازنة التي صادق عليها البرلمان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بقيمة 52.6 مليار دينار.

وبلغت قيمة القرض في البرنامج السابق مع صندوق النقد الدولي 2.9 مليار دولار، إلا أن الحكومة لم تحصل سوى على 1.4 مليار دولار منه، بعد تعليق الاتفاق لأسباب سياسية تتعلق بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، عقب وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي في 2019، وأخرى تتعلّق بعدم تنفيذ الحكومة اشتراطات تعهدت بتنفيذها.

وتحظى تونس بإشادة واسعة، باعتبارها قصة النجاح الديمقراطي الوحيدة للربيع العربي، لأن الاحتجاجات التي أطاحت بزين العابدين بن علي في عام 2011 لم تؤد إلى اضطرابات عنيفة، عكس ما حدث في ليبيا وسورية بشكل خاص.

لكن منذ ذلك الحين، فشلت جميع الحكومات في حل المشاكل الاقتصادية في تونس، بما في ذلك ارتفاع التضخم والبطالة، بينما تتزايد الضغوط من المقرضين الدوليين لحثها على الإسراع في تنفيذ الإصلاحات التي تعطلت منذ سنوات. ويتوقع صندوق النقد نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.8% هذا العام، مقارنة بانكماش قياسي قدره 8.2% مقدراً في 2020.

المساهمون