مصر في مصيدة الدولة الضعيفة

08 مارس 2024
محاولات النظام السياسي لإدامة بقائه أدت إلى إضعاف إمكانات الدولة (Getty)
+ الخط -

ربما يفهم كثيرون ما يبدو من تواطؤ لأغلب الأنظمة العربية، ومن بينها الإقليم ــ القاعدة مصر بلغة ومنطق القوميين، ما يحدث لغزّة من عدوان همجي وحصار إجرامي، كجزء من خوف هذه الأنظمة من انتصار المقاومة عموماً، وبقيادة حماس الإسلامية خصوصاً؛ بما يمكن أن يحمله وينتجه ذلك من رسائل تحفيز ثوري للشعوب ورأسمال سياسي للإسلاميين.

كذا كجزء من المصالح المشتركة لرؤوس الأموال الإقليمية ومشاريع التكامل العربي الصهيوني تحت لواء المواجهة الأميركية لمبادرات التكامل التجاري الصينية. لكن في الواقع لا يمكن اختزال الأمور دوماً في المصالح والمخاوف.

فهي نفسها محكومة بتوازنات قوى تحدّد السياق المُنتج لها ابتداءً، خصوصاً أن الأمر يشمل تهديدات لأمن واستقرار هذه الدول والأنظمة نفسها.

وعلى هذا الصعيد، يمثل الضعف العربي الحقيقة الأساسية التي لا مهرب منها ولا استثناء عليها، سواءً تعلّق الأمر بالدول العربية الصغيرة حجماً وسكاناً، أو المتوسطة محدودة الإمكانات مُهلهلة الاستقرار، أو مصر الشقيقة الكبرى المأزومة.

ورغم أنها ليست الأسوأ حالاً، فهي لا تخرج عن إطار الدولة الضعيفة متدهورة التأثير الإقليمي والدولي، رغم امتلاكها كافة مقوّمات القوة المتوسطة دولياً، كشأن إيران وتركيا على الأقل، فما هي أسباب ذلك الضعف، ولماذا لا تحقّق مصر كامل إمكاناتها وتكون على مستوات التوقّعات منها؟ 

نجاح النظام وفشل الدولة 

لا تنفصل السياسة الخارجية عن الداخلية والعكس بالعكس، وبالمثل لا يمكن لضعف داخلي ألا ينعكس في ضعف خارجي عاجلاً أو آجلاً؛ فمعطيات القوة والضعف المُحدّدة للاثنين واحدة.

تلك المعطيات التي تتجاوز كثيراً التصوّرات البدائية والساذجة التي تختزل تلك المعطيات في مراكمة المال والسلاح. فليست المشكلة فقط في وضع التأزّم المالي ولا الضعف الاقتصادي العام لمصر، ولا حتى عدم تكافؤ مصر عسكرياً مع القوى الغربية الداعمة لإسرائيل.

فهذه كلها على أهميتها، تمثّل في نهاية المطاف مظاهر وأعراضا للضعف وليست أصوله وجذوره نفسها، تلك الأصول والجذور الأجدر بالاهتمام، أو رأس السمكة، التي يجب البدء بها ومنها لمواجهة حالة الضعف وعكس الاتجاه المتزايد إليها.

وفي هذا السياق، نذكر أول من تناول وتنبأ بتفاقم ضعف الدولة المصرية، الباحث الراحل دكتور سامر سليمان في كتابه المهم "النظام القوي والدولة الضعيفة: إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عصر مبارك" الصادر لأول مرة عام 2005.

والذي حلّل ما اعتبره التناقض المركزي لنظام مبارك، والمستمر معنا والذي يؤدي لإنتاج ما وصفه بعنوانه الرئيسي المذكور، من نظام سياسي تؤدي محاولاته لإدامة بقائه إلى إضعاف إمكانات الدولة، أو ما وصفه هو نفسه بنجاح النظام وفشل الدولة.

وجوهر التناقض المذكور هو أن تعاظم حالة التأزم المالي والتدهور الاقتصادي يؤدي بالنظام السياسي للتعامل مع وضع يتناقص فيه المؤيدون له المستفيدون منه، فيما يزيد المعارضون له عن الخاسرين منه، بينما تعوق طبيعته الاستبدادية ذاتها معالجة تلك الحالة المُزدوجة؛ ما يؤدي لمفارقة تعاظم النزعة المركزية الديكتاتورية للدولة، بينما تتراجع قدراتها السياسية والتنموية محلياً وتتفكّك أجهزتها الإدارية مؤسسياً.

هذا التأزم المالي تفاقم مع تراجع الموارد الريعية وقصورها عن تلبية الحاجات المالية المتزايدة لبلد يعاني اقتصاده من تخلف صناعي وركود مُزمن؛ ما أدى، مع رفض الدولة لمسار الإصلاح الضريبي الشامل بما يستتبعه عاجلاً أو آجلاً من اصطدام بالطبقات ذات الحظوة وضرورة ارتفاع التمثيل السياسي، إلى تحوّلها لدولة جباية تتحايل على المجتمع لاستقطاع الموارد منه بأشكال ملتوية وغير شفافة كطباعة النقد.

وكنتيجة منطقية، تسهم هذه السياسة تضخمية الطابع في تعاظم الميول الاكتنازية والهروبية والمضاربية، الكامنة أصلاً بسبب الانحراف الريعي للاقتصاد عموماً؛ بما يشوّه ويضعف الاستثمار والاقتصاد بمجموعه من جهة، ويقلّل الحصيلة الضريبية الخام بالتبعية من جهة أخرى.

ما يؤدي بمجموعه إلى مفاقمة التأزم المالي وخلق حلقة أو مصيدة ضعف خبيثة، تبدأ بتراجع التنمية وتدهور الخدمات؛ فتراجع الدعم الشعبي للنظام السياسي، وتزايد التهرّب الضريبي وركود الإيرادات العامة؛ فتفاقم المديونية وتدهور الاستثمار العام بشقيه الاجتماعي والتنموي، وتعاظم القمع الأمني لضمان الاستقرار السياسي؛ فتدهور حكم القانون وتفسّخ المؤسسات؛ فتدهور القدرة المؤسسية والتنموية للدولة.

وبالجُملة، كنتيجة لهذا كله، تزايد حالة الضعف العام، سياسياً واقتصادياً معاً، وداخلياً وخارجياً في ذات الوقت.

وفي هذا التصوّر، الذي ينطلق من منطق الاقتصاد السياسي للدولة الحديثة، ليست قدرة الدولة على القمع السياسي والتجبّرالأمني على مواطنيها دليلاً على قوتها، بل تمثّل على العكس مؤشراً على ضعفها السياسي وبدائيتها المؤسسية؛ كونها لا تمارسهما إلا لافتقادها عنصريّ الشرعية والفاعلية كأسس لاستقرارها.

تؤكد هذا التعريفات العديدة للدولة الضعيفة والدولة الهشّة، والتي على تعدد أُطرها ومعاييرها، فضلاً عن مؤشراتها الفرعية التي تجاوزت الأربعين مؤشراً، فإنها تشترك في نهاية المطاف في ثلاثة معايير كبرى لمدى ضعف أو هشاشة الدولة، هي السلطة والقدرة والمشروعية، ربما تتباين في مؤشراتها، لكنها تتفق في المضمون العام.

وفي أحد أبرز التأطيرات، يتحدّد "معيار السلطة" أساساً بمدى احتكار الدولة للعنف المشروع ونسبة حالات القتل خارج القانون، فيما يتمظهر "معيار القدرة" في نسب وفيات الأطفال تحت سن خمسة أعوام والالتحاق بالتعليم الابتدائي والوصول إلى المياه النظيفة وكفاءة الإدارة العامة عموماً.

بينما يتجلّى "معيار المشروعية" في حرية الصحافة وحكم القانون ومدى انتهاكات حقوق الإنسان وما شابه، وعنها تشتهر ثلاث فجوات، هي "فجوات الأمن والقدرة والمشروعية" تمثل بتوليفات ودرجات اجتماعها المختلفة نوعيّ الدولة المذكورين.

وحيث تتفق معايير نوعيّة الدول الضعيفة والهشّة، فالفارق بينها أساساً فارق درجة وليس فارق نوع، أي أن الأولى تؤدي تدريجيًا إلى الثانية، وتمثّل مرحلة على الطريق إليها، حال استمرار التدهور على أصعدة المعايير المذكورة، وإن كان يمكن التمييز بينهما بفارق واضح حسب مدى اجتماع التدهور على أصعدة المعايير الثلاثة أو على بعضها فقط.

فبينما الدولة الهشّة فاقدة لجميع المعايير بما فيها احتكار العنف؛ ومن ثم عاجزة عن الإكراه والقسر؛ أي عاجزة عن مجرد توفير الأمن الاجتماعي بأبسط معانيه، فإن الدولة الضعيفة فاقدة للمشروعية والقدرة فقط؛ ومن ثم عاجزة عن الحفز والتعبئة؛ ومن ثم الإدارة التنموية والمؤسسية الناجحة للمهام الأكثر تعقيداً.

ووفقاً لهذا التمييز، تقع مصر بوضوح في فئة الدولة الضعيفة، الفاقدة للمشروعية الشعبية، والعاجزة تنموياً ومؤسسياً، لكنها لا تزال قادرة على احتكار العنف؛ لا عجب أن مفهوم سلطتها الوحيد عن "هيبة الدولة" هو قمع المواطن، وليس جودة حياة واحترام كرامة هذا المواطن ولا تعزيز مكانتها واستكمال كامل إمكاناتها الإقليمية والدولية، ما تعوّضه ببعض الكرنفالات الاستعراضية لسدّ فجوة المشروعية الواضحة.

والواقع أن هذا المعيار الوحيد الباقي لها المُتمثّل في القدرة على القمع لا يكفي بذاته لكبح التدهور من حالة الضعف الوسيطة إلى الهشاشة الكاملة، فالحقيقة أن السلطوية المتزايدة علامة بارزة على تراجع قوة الدولة.

خصوصاً أن رغبة السلطة في إضعاف المجتمع للحفاظ على موقعها المهيمن سياسياً واقتصادياً، لا تؤدي إلا لإضعاف الاثنين معاً؛ لقتلها المبادرة الفردية والشعبية، ودفعها بالقوى الفاعلة بعيداً عن التعاون البنّاء، حتى في ما فيه الصالح العام، بما يشبه ما يجري ضمن حلقة الضعف الخبيثة المذكورة. 

مصر على مؤشرات الضعف والهشاشة 

وحسب مؤشر الدول الهشّة، الذي يُحدّث سنوياً برعاية منظمة صندوق السلام The Fund for Peace، احتلت مصر المرتبة الـ50 من 179 دولة غطّاها المؤشر عام 2023، ما يضعها في الثلث الأضعف من دول العالم، وإن كانت قد حسّنت مؤشرها العام للهشاشة بالهبوط بمقدار تسع نقاط، من 91 عام 2014 إلى 81.6 عام 2023 (من إجمالي 120 نقطة)؛ ما يرتبط بالتأكيد بالنجاح في القضاء على العمليات الإرهابية بسيناء.

وتتراتب درجات الهشاشة على المؤشر تنازليًا من درجة "الإنذار-Alert" ما بين 90 و120 نقطة، إلى درجة "التحذير-Warning" ما بين 60 و90 نقطة، ثم درجة "الاستقرار-Stable" ما بين 30 و60 نقطة، وصولاً إلى درجة "المُستدام-Sustainable" الأكثر آمناً ما بين صفر و30 نقطة.

ما يعني وقوع مصر قُرب الحافة ما بين درجتي الإنذار والتحذير، أو بالدقة في درجة الـ High Warning، التي تمثل المرتبة الأسوأ ضمن درجة "التحذير-Warning"، رغم ما حدث من تحسّن للمؤشر طوال العقد الأخير.

ويتضمّن هذا التحسّن في المتوسط العام للمؤشر تحسّنات وتراجعات متفاوتة في الاثني عشر مؤشراً فرعياً المكوّنة له، والتي تتوزّع على أربع مجموعات، هي مؤشرات التماسك والمؤشرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

أما مؤشرات "التماسك" الفرعية فهي: قوة أجهزة الأمن، ومدى وحدة النخب، وإمكانات التظلّم الجماعي، فيما "المؤشرات الاقتصادية": التدهور الاقتصادي، ومدى عدالة وتكافؤ التنمية الاقتصادية، والنزوح الإنسان وهجرة الأدمغة.

و"المؤشرات السياسية": المشروعية السياسية، ومدى توفّر الخدمات العامة، وحقوق الإنسان وسيادة القانون، وأخيراً "المؤشرات الاجتماعية": الضغوط الديموغرافية، واللاجئون والنازحون داخلياً، والتدخل الخارجي.

ولسنا بحاجة لتفصيل حالة المؤشرات في هذه العُجالة، خصوصاً الاقتصادية والسياسية، فمظاهر التدهور الاقتصادي والقمع السياسي أوضح من أن نناقشها.

بل إن تحسّن مؤشر الهشاشة العام (الذي يمثّل في النهاية متوسطاً رياضياً لمجموع المؤشرات الفرعية)، رغم التدهور الواضح عياناً لهاتين المجموعتين من المؤشرات الفرعية، هو دليل بحد ذاته على مدى حدّة تدهورها، وكيف تمثّل أهم نقاط الضعف التي تنهك البلد وتدفعها باتجاه الهشاشة في الوقت الحالي.

كما أن تفاقم حالة التأزّم المالي، حدّ التهام أقساط وفوائد الدين العام أكثر من نصف الموازنة العامة، هو مما ينذر بمزيد من التدهور على أصعدة الاستثمار الحكومي وتنمية وصيانة المرافق وتوفير الخدمات العامة، وعلى رأسها التعليم والصحة والحماية الاجتماعية المتدهورة بالفعل.

ما يعمّق تدهور هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، بل ويمتد إلى السياسية؛ نظراً لما يثيره من عدم استقرار سياسي يدفع السلطة لمزيد من القمع والاستبداد كالحل المُتاح الأسهل في الأجل القصير؛ بما يفتئت على البقية الباقية من حكم قانون وحقوق إنسان؛ فيعمّق الهوّة بين الدولة وشعبها؛ ويغرقها أكثر في مصيدة الضعف الخبيثة.

وجوهر المشكلة هو تصوّر السلطة الحاكمة في مصر أنه يكفي أن تستقدم كثيراً من الأموال وتقيم أضخم المشاريع وتكدّس أحدث الأسلحة لتصنع دولة قويةً قادرة.

لكنها لا تفلح في الواقع ما دامت الدولة تتدهور مؤسسياً وتنعزل عن شعبها سياسياً وتتغوّل عليه اقتصادياً؛ فتفقد مشروعيتها بانفصالها عن إرادته العامة وأولوياته الحقيقية؛ وبالتبعية تخسر مبادرته ومشاركته في برامجها؛ فيزداد تدهورها وعجزها عن تحقيق أيّة تنمية متوسطة وطويلة الأجل.

فلأن "الغُنم بالغُرم" بلفظ القاعدة الفقهية الشهيرة، ولأن "السلطة رديفة المسؤولية"، أي لا بد أن تتوازن وتتعادل معها، كأول وأبرز مبادئ الإدارة الحديثة؛ لا يمكن لحكومة أن تستمر بنجاح في استبعاد الشعب من السلطات والقرارات، فيما تستحضره فقط في المسؤوليات والتكاليف.

بل سيتحوّل الأمر لغياب للإرادة الوطنية المُوحدة وصراع خاسر على الموارد؛ يؤدي لسباق يقود البلاد إلى الهاوية.

وما محاولات الحفاظ على المدخرات، التي أخذت شكل الهروب من الجنيه بالمضاربة على الدولار والذهب والسلع مؤخراً، في جانب منها، سوى نوع من المقاومة الاجتماعية - للقادرين عليها - لمحاولات الحكومة تحميل المواطن تكاليف فشلها الاقتصادي والمالي عبر ضريبة التضخّم، الناتجين عن إدارة وقرارات لم يشارك بها من البداية.

وفي هذا السياق، الذي تتجلّى فيه تكاليف الاستئثار بالسلطة، يتضح أن المشاركة الشعبية وحكم القانون وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ليست نوافل ولا حُليّ تتجمّل بها الدول الحديثة على سبيل التفاخر والتظاهر، بل هى شروط وجود واستمرار، ناهيك عمن يأمل بأيّ تقدم أو ازدهار، وحتى تراثنا القديم الذي يعود لمئات السنين، قبل نشأة الدولة الحديثة، يعجّ بأقوال الحكماء في أهميتها كمبادئ سياسية واجتماعية بلغة عصرهم.

فقد عنون ابن خلدون فصلاً كاملاً من مقدمته الشهيرة بأن "الظلم مُؤذِنُّ بخرابِ العُمران"، كما اشتهر عن ابن تيمية قوله في مجموع فتاويه "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة".

فليس إسلام الدولة ولا فرعونيتها التليدة ولا أيّ هوية عظيمة أو مُوغلة في التاريخ يمكن أن تستثنيها من قوانين الاجتماع الإنساني؛ فتقيها الضعف والفشل بزعم أنها "محروسة"، بل الحرية والكفاءة والعدالة كشروط للدينامية البشرية والإنجاز المادي...
إنها سنن الله في خلقه، ولن تجد لسنن الله تبديلاً.

المساهمون