لا نبالغ كثيراً إن وصفنا التجربة الاقتصادية لمصر منذ انتهجت طريق الانفتاح الاقتصادي أواسط السبعينيات بالعقود الضائعة، تلك العقود التي تُوّجت أخيراً بعقد كثّف وركّز كل مشكلات نصف القرن الماضي بصورة حادة ومتسارعة تعكس مشكلات النموذج الاقتصادي بمجموعه أولاً، وتظهر استنزافه لكامل إمكاناته ووصوله إلى نهايته المحتومة ثانياً.
لكننا لن نخوض اليوم في مناقشة هذا النموذج الاقتصادي ولا مشكلاته البنيوية المتأصلة في صميم تكوينه، بل سننظر في مظاهره في لحظتنا الراهنة، بالنظر إلى موقع مصر وبعض أبرز مؤشرات الرخاء والبؤس المعروفة عالمياً، كوجهين مختلفين لذات الوضع، لكن يؤكد بعضها بعضاً بالتعريف، مركّزين بشكل مُوجز على مؤشرات الرخاء ونوعية الحياة والسعادة والبؤس، مع التعليق على دلالاتها وقصوراتها حيثما وُجدت.
مؤشر الرخاء
هو مؤشر نوعي يصدره معهد ليجاتوم لقياس الحالة الاقتصادية والاجتماعية العامة، ويتكوّن كمؤشر مُركّب من 3 أبعاد نوعية، يتكوّن كل منها من 4 مؤشرات فرعية، يتكوّن كل واحد منها بدوره من مستويين آخرين أكثر تفصيلاً من المعايير التي تُقدّر بأساليب خاصة، ثم تُحسب تراكمياً بعضها على أساس بعض (من الفرعي إلى الرئيسي)، ما تصعب تغطيته هنا لضيق المجال، ولهذا سنكتفي هنا بأكثرها أهمية وشمولاً من جهة، وأكثرها تغيراً ودلالةً من جهة أخرى.
احتلت مصر مرتبة متقدمة (سلبية) على مؤشرَي العطلة المرورية والتلوث، بينما احتلت مرتبة متأخرة (سلبية) بشكل كبير على مؤشرَي القوة الشرائية (81) والرعاية الصحية (80)
أما أوّلها، فهو بُعد "الانفتاح الاقتصادي"، ويتكوّن من مؤشرات: بيئة الاستثمار، وظروف الأعمال، والبنية التحتية والوصول إلى الأسواق، والجودة الاقتصادية، فيما يتعلّق ثانيها ببُعد "الاحتواء الاجتماعي"، مُكوّناً من مؤشرات: الأمن والأمان، والحرية الفردية، والحوكمة، ورأس المال الاجتماعي، ويختص ثالثها ببُعد "تمكين البشر"، مُعبراً عنه بمؤشرات: ظروف الحياة، والصحة، والتعليم، والبيئة الطبيعية.
وكما هو واضح، يحاول المؤشر، سيراً على نهج المؤشرات المركبة الحديثة، تجاوز فكرة المؤشر الأحادي البسيط الذي لا يشمل الأبعاد النوعية من جهة، كما يختزل نوعية الحياة في مؤشرات جزئية مُسطّحة لا تمثل بالضرورة الواقع الحقيقي للمواطنين من جهة أخرى، هذا النوع البدائي من المؤشرات الذي يمثل معدل النمو التقليدي ومتوسط الدخل القومي للفرد أشهر وأقدم نماذجه.
وبالنظر في آخر إصدار من المؤشر عن مصر عام 2023، نجدها تحتل المرتبة الـ121 من بين 167 دولة غطّاها المؤشر، متحسّنةً من المرتبة الـ132 عام 2019، ومُتراجعةً من المرتبة الـ119 عام 2013؛ بما يضعها عموماً في الثلث الأقل رخاءً على مستوى العالم، ومن بين 19 دولة تشكّل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، احتلت مصر المرتبة الـ14 بينها في العام الجاري؛ بما يضعها في الربع الأقل رخاءً على مستوى المنطقة (والذي يبدو منطقياً لأسباب بعضها لا يخص أداء مصر نفسه).
وتُصنّف الترتيبات على المؤشر بعدة مناطق، أسوأها المنطقة الحمراء للمراتب المتأخرة (السلبية)، وأفضلها المنطقة الخضراء للمراتب المتقدمة (الإيجابية)، وبينهما المنطقة البرتقالية (المتوسطة)، مع تدرّجات جزئية ما بين الألوان الثلاثة للدرجات الوسيطة فيما بينها، ويُلاحظ عدم انتماء مصر إلى المنطقة الخضراء على أيّ مؤشر من المؤشرات الرئيسية أو الفرعية، فيما وقعت بستة مؤشرات فرعية في المنطقة الحمراء وشبه الحمراء، أغلبها ضمن بُعد الاحتواء الاجتماعي وتمكين البشر، وبثلاثة مؤشرات فرعية في المنطقة البرتقالية تمثل بقية مؤشرات بُعد تمكين البشر، وثلاثة مؤشرات فرعية، هي الأفضل أداءً، في المنطقة شبه الصفراء تنتمي إلى بُعد الانفتاح الاقتصادي!
وعلى مستوى البُعد الأول، الانفتاح الاقتصادي، ارتفع من 43 إلى 51.3 خلال العقد الأخير 2013-2023، لكن بنظرة أكثر تفحّصاً؛ نجد أن أغلب المؤشرات الفرعية المكوّنة له لم تحقّق سوى تحسّنات طفيفة، باستثناء مؤشر البنية التحتية الذي حقّق أكبر طفرة بينها، ما جعله المسؤول عن النسبة الأكبر من ذلك التحسّن، بينما في المقابل يخفي التحسّن الطفيف في المؤشر الفرعي المتعلّق بالجودة الاقتصادية تراجعاً حاداً في معيار الاستقرار الاقتصادي الكلي (الأكثر فرعية).
أما البُعد الثاني، الاحتواء الاجتماعي، فقد تراجع بمجموعه من 43.9 إلى 35.9 خلال الفترة نفسها، بحالة شبه استقرار في مؤشر رأس المال الاجتماعي، وتراجعات متفاوتة على مستوى المؤشرات الثلاثة الفرعية الأخرى، التي يبرز من بينها مؤشر الحرية الشخصية بشكل خاص، باعتباره الأكثر تراجعاً، بنسبة تراجع بلغت الثلث تقريباً.
بنظرة أكثر تفحّصاً؛ نجد أن أغلب المؤشرات الفرعية المكوّنة له لم تحقّق سوى تحسّنات طفيفة، باستثناء مؤشر البنية التحتية الذي حقّق أكبر طفرة بينها
ولعل البُعد الثالث، تمكين البشر، هو الأكثر غرابة من منظور المشاهدات المباشرة، حيث يبدو مستقراً بتحسّن طفيف من 56.4 إلى 58.5 خلال الفترة نفسها، بتحسّنات طفيفة على مستوى المؤشرات الفرعية كافة، خصوصاً التعليم والصحة والبيئة، وإن أقرّت المعايير الأكثر تفصيلاً بتراجع مؤشرات مستويات المعيشة المادية وتزايد مؤشرات المخاطر الصحية الجسدية والعقلية.
ولعلّ الملاحظة الأبرز على منهجية تكوين المؤشر، التي تفسّر جزءاً مما يبدو كتقديرات متفائلة بالمقارنة بالواقع، هي طريقة تحديد الأوزان النسبية للمعايير المكوّنة للمؤشرات، فنجد على سبيل المثال معيار الاستقرار الاقتصادي الكلي لا يمثل سوى 10% فقط من المؤشر الفرعي المتعلق بالجودة الاقتصادية، بينما تمثل معايير النقل والاتصالات معاً 50% من المؤشر الفرعي المتعلق بالبنية التحتية، فيما لا تتجاوز معايير أوزان الماء وتشوّهات الأسواق 10% لكل منهما.
مع ذلك، تظل للمؤشر فائدته من زاوية شموله الكبير وتفصيله الدقيق لأغلب أبعاد الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي معاً، حتى وإن تطلّب مزيداً من التطوير المستقبلي لضبط الأوزان النسبية للمؤشرات الفرعية ومعاييرها الداخلية، فضلاً عن مراعاة اختلافات مستويات التطور والدخول بما تستتبعه من اختلافات نوعية جديرة بالاهتمام بين البلدان المختلفة.
مؤشر نوعية الحياة
لتغطية حياة المواطن اليومية، يمثل مؤشر نوعية الحياة (الصادر عن مؤسسة Numbeo) مؤشراً أكثر بساطة ومباشرة من مؤشر الرخاء، مُركب من 8 مؤشرات فرعية من مستوى واحد، هي مؤشرات: القوة الشرائية، والتلوث، ونسبة سعر السكن إلى الدخل، وتكلفة المعيشة، والأمن، والرعاية الصحية، والعطلة المرورية، والمناخ.
وبينما راوحت تقديرات المؤشر أواسط العالم الحالي 2023 ما بين 69 (الأقل نوعية) و201 (الأعلى نوعية)، انتمت مصر إلى السُّدس الأدنى من المؤشر بمقدار 88.64 للمؤشر العام، بتقدير عام "منخفض جداً"، مُحتلةً المرتبة الـ76 من 84 بلداً غطّاها المؤشر لذلك العام.
وعلى مستوى المؤشرات الفرعية، نجد أنه باستثناء مؤشر المناخ القائم على عوامل طبيعية، الذي احتلت عليه مصر أفضل مراتبها على المؤشرات الفرعية (20)، احتلت مصر مرتبة متقدمة (سلبية) على مؤشرَي العطلة المرورية والتلوث، (6) عالمياً للاثنين، بينما احتلت مرتبة متأخرة (سلبية) بشكل كبير على مؤشرَي القوة الشرائية (81) والرعاية الصحية (80)، ومرتبة مقبولة على مؤشر الأمن (61)، ومرتبة متوسطة على مؤشر نسبة سعر السكن إلى الدخل (38)، ومرتبة متأخرة (إيجابية) على مؤشر تكلفة المعيشة (83)، وإن فقد ذلك معناه الإيجابي بالمرتبة المتأخرة الموازية على مؤشر القوة الشرائية المذكور آنفاً.
مؤشر السعادة
أما عن إصدار العام الحالي من تقرير السعادة العالمي الذي غطّى 137 دولة، والذي يصدر عن شبكة حلول التنمية المُستدامة بدعم من مؤسسة غالوب الأميركية، فبلغ متوسط تقييم جودة الحياة لآخر ثلاثة أعوام 2020-2022 (المعبِّر عن السعادة بمصطلحات التقرير والذي يُقدّر بالاستبيان المُباشر للمواطنين) لمصر 4.17 في المرتبة 121 كمتوسط عام، وبين المرتبتين 111 و128 كمدى تقديري، ما يضعها إجمالاً قُرب العُشر الأدنى عالمياً على المؤشر، وضمن الفئة الدنيا التعيسة على المؤشر تحت تقييم 4.5 (مقابل الفئة المتوسطة من 4.5 إلى 6، والفئة السعيدة من 6 إلى 8).
وبنظرة في إصدار عام 2017 من ذات التقرير، الذي يمثّل كذلك الثلاثة أعوام السابقة عليه مباشرةً 2014-2016، أي قبل أولى جرعات التعويم العنيف في العقد الأخير، سجّلت مصر مستوى سعادة 4.73 في المرتبة الـ104 عالمياً من 155 دولة غطّاها المؤشر؛ ما يعكس الآثار المعنوية الفورية لتدهور مستويات المعيشة خلال الأعوام الأخيرة، ودورها الأكيد في تراجع نوعية الحياة ومستوى السعادة.
متوسطات تجميلية
مما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، أن الصورة الحقيقية في الواقع، سواء لهذه المؤشرات أو لغيرها، هي دائماً أسوأ مما تبدو عليه؛ حيث لا تقدم أغلب المؤشرات بطبيعتها سوى متوسطات عامة بغرض المقارنة دولياً، لكنها كمتوسطات تخفي أكثر مما تظهر، بعدم إظهارها التفاوتات الداخلية الضخمة في حالات ارتفاع درجة تفاوت توزيع الثروة والدخل، والتي تكتسب، في مصر مثلاً، أهمية خاصة مع كونها ضمن أسوأ دول العالم توزيعاً للثروة بمعامل جيني للثروة 0.792، والذي كلما اقترب من الواحد الصحيح كان أسوأ، عام 2020 (حسب تقرير الثروة العالمي الصادر عن بنك كريدي سويس)، وباستئثار أغنى 10% من المصريين بنسبة 73% من الثروة حسب تقديرات أقدم لعام 2014، وبحصة إنفاق تقرب من 70 ضعفاً حصة إنفاق أفقر 10% منهم وفقاً لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2016.
هذه التفاوتات الضخمة، التي تعكس استئثار قلة من الشعب بالحصة الأكبر من الرفاهية، تعني مستويات معيشة وسعادة فعلية أقل للغالبية العظمى من الشعب
هذه التفاوتات الضخمة، التي تعكس استئثار قلة من الشعب بالحصة الأكبر من الرفاهية المحسوبة عليه رقمياً لا غير، تعني من الجهة المعاكسة مستويات معيشة وسعادة فعلية أقل للغالبية العظمى من الشعب، تماماً كما لا يمثل متوسط الدخل القومي للفرد (النظري) واقع متوسط الدخل الفردي (الحقيقي) لأغلب الشعب في ضوء أن 70% من الشعب يحوزون 48% فقط من الدخل القومي وفقاً لأحد أكثر تقديرات توزيع الدخل تفاؤلاً، وكان تقرير التنمية البشرية لعام 2011 قد أشار إلى مسؤولية هذه اللامساواة بمجموعها عن انخفاض مؤشر التنمية البشرية لمصر بحوالى 24%، ما يعني ضياع حوالى ربع التحسّنات التنموية الممكنة وفقاً للمعطيات الاقتصادية القائمة بسبب اللامساواة وحدها.
بؤس مختبئ وتدهور مُزدوج
ترجع أصول مؤشر البؤس إلى الاقتصادي الأميركي آرثر أوكن في ستينيات القرن الماضي، عندما وضع صيغته الأولى مُكوناً إياه بالجمع الحسابي بين معدلَي أهم ظاهرتين كليتين، التضخم والبطالة، ليعيد الرئيس الأميركي رونالد ريجان تسميته لاحقاً باسمه السائد حالياً، ثم يعيد الاقتصادي الأميركي روبرت بارو صياغته لاحقاً ليشمل معدلَي الفائدة والنمو الاقتصادي، كلٌّ بتأثيره المُفترض، فيُضاف سعر الفائدة إلى التضخم والبطالة (باعتبارهم جميعاً تكاليف اقتصادية أو خصومات من الرفاهية)، بينما يُحسَم معدل النمو منهم جميعاً (باعتباره يقلّل من البؤس الاقتصادي أو يضيف للرفاهية)، وهي الصيغة التي طوّرها الاقتصادي الأميركي كذلك ستيف هانك بتعديل طفيف لمفهوم معدل النمو المُعتمد بالمعادلة.
ورغم هذه الإضافات والتعديلات، يظل التضخّم والبطالة أهم مكوّنات المؤشر؛ لكونهما أكثرها تقلّباً من عام إلى آخر، خصوصاً في الاقتصادات الهشة كاقتصادات العالم الثالث التي تنتمي إليها مصر، فضلاً عن كون التضخّم المُحدد الأساسي لسعر الفائدة؛ لذا يتقلّب المؤشر من عام لآخر بسرعة أكبر من مؤشرات الرخاء ونوعية الحياة السابقة، وإن كان يعطي صورة أكثر مباشرة عن الواقع الاقتصادي للمواطن.
وعلى هذا الصعيد لا تحتل مصر مرتبةً متقدمة على المؤشر في سنوات التضخم العادي (الذي تعاني طريقة حسابه من إشكالات منهجية لسنا في محل مناقشتها)، وإن وجبت الإشارة إلى أن جزءاً معتبراً من الانخفاض الظاهري للمتوسط العام للمؤشر لمصر عبر السنوات هو الانخفاض المُصطنع في معدل البطالة (ثاني أهم مكوّنات المؤشر)؛ ليس فقط بعدم حساب أغلب البطالة المُقنّعة والمُحبطة وما شابه مما يدخل في باب الالتباسات المفاهيمية (التي ترقى أحياناً إلى مرتبة التلاعبات المُتعمّدة)، بل أساساً بالانخفاض الشديد ابتداءً من نسبة مشاركة المرأة في قوة العمل، التي تناهز حوالى 18% فقط بما يقل عن نصف المتوسط العالمي البالغ 40% تقريباً من قوة العمل.
الانخفاض في مشاركة المرأة في قوة العمل ليس نتاجاً لأسباب ثقافية أو اجتماعية، فقد وصلت النسبة في وقت ما لنحو 24%، لكنها بسبب التراجع في خلق فرص العمل
هذه الانخفاض في مشاركة المرأة في قوة العمل ليس نتاجاً لأسباب ثقافية أو اجتماعية بالأساس، فقد وصلت هذه النسبة في وقت ما إلى حوالى 24% من قوة العمل، لكنها أساساً بسبب التراجع في خلق فرص العمل، اللائق خصوصاً، في الاقتصاد، خصوصاً مع تراجع التوظيف الحكومي؛ بشكل أعاد ترجيح "موازنة العمل-الأسرة" التي تواجهها المرأة باتجاه الأسرة؛ في ضوء الانخفاض الشديد في منافع العمل، حال وجوده أساساً.
ولعلّ هذا التفسير لتراجع عمل المرأة، ضمن تراجع خلق فرص العمل عموماً في الاقتصاد، مجرد انعكاس لنمط أكبر على مستوى الاقتصاد، هو تعمّق ركوده كمياً بالتوازي مع تخلّفه نوعياً، والذي تجلّى في تفاقم التراجع التشغيلي المُتجذّر تاريخياً في الاقتصاد منذ ما يقرب من نصف قرن، فقد تخلّف معدل نمو التشغيل عن معدل نمو قوة العمل، بمتوسط 2.6% للأول مقابل 2.8% للثاني، طوال الفترة 1980-2005، مع تذبذب كبير في مرونة التشغيل (أي مدى انعكاس النمو الاقتصادي على خلق فرص العمل)، لكن في مستوى متدنٍ نسبياً لم يتجاوز 0.46 خلال معظم الفترة ما بين الثمانينيات وثورة يناير، وهو الميل الذي ازداد بلا شك مع تراجع الادخار المحلي والاستثمار الخاص وارتفاع أسعار الفائدة طوال العقد الأخير.
ومع التراجع النسبي للتدفقات الخارجية مقارنةً بالاحتياجات المحلية المتزايدة، مع أهميتها المعتبرة للاقتصاد منذ بدأت مرحلة الانفتاح؛ كان طبيعياً أن تميل محرّكات النمو الحقيقي للنضوب في ظل حالة التخلّف النوعي وعدم تطوير قطاعات وسلع جديدة؛ ليصبح الاقتصاد بحاجة لموارد متزايدة لمجرد البقاء في مكانه، فضلاً عن التقدم للأمام وخلق تشغيل مُنتج جديد وصادرات حقيقية تعزّز موقعه الدولي؛ ما انعكس في مظهره الأخير، ومع سوء الإدارة المتزايد، في تفاقم مديونيته وتدهور عملته، إلخ.
وهكذا فالبؤس المتزايد في مصر في العقد الأخير ليس وليد لحظة خطأ أو أزمة عابرة كما يحاول الخطاب الرسمي تصويره، بل اتجاه طبيعي ضمن منطق النموذج الاقتصادي غير المُستدام من البداية، كما هو نتيجة طبيعية لحالة التدهور المُزدوج كمياً وكيفياً لاقتصاد تتراجع معدلات نموه وتشغيله بالتوازي مع تراجع تصنيعه ونضوب منافذ تراكمه، مدفوعين بنضوب روافد الريع من جهة، وغياب الدولة التنموية وسوء الإدارة العامة المتزايد من جهة أخرى.